ولأني من جبال الجنوب وسليل فلاحين رعاة أغنامٍ تعرفهم بإكليل الورد على رؤوسهم، فقد وصفت نفسي حيناً بأني «راعي غنم مثقف» كنوع من الانزلاق الاعتذاري على المعيار الثقافي الصعب الذي لا تخفى شروطه على المهتمين بمعنى الثقافة كممارسة فكرية «نقدية» تظهر على شكل مكتوب أو مرسوم، فهل يعقل أن نسحب من (ناجي العلي) صفة «مثقف» ونراه مجرد رسام كاريكاتير عابر، فكيف نستر عارنا من «حنظلة»!؟!!، بينما أسماء أكاديمية كثيرة نعطيها وصف «مثقف» وهي عاجزة عن استيعاب أبجدية المعرفة في كتاب بسيط ومهم مثل (التفكير العلمي) لفؤاد زكريا.
لست مثقفاً يا صاحبي وفق شرط فيصل دراج الذي يقول: (من لا يتطور يموت، وهو لا يتطور انطلاقاً من القصد والنية، ولكن انطلاقاً من المعرفة والممارسة) ولهذا فأنا (وأمثالي كثير) لا نتجاوز إمكانات نباتات الظل (المنزلية) في القصد والنية، يكفيها كوب ماء من صاحب المنزل لتزعم أمام صويحباتها (أنها شجرة)، بينما المعرفة والممارسة تحتاج مرتكزات بنيوية في الوسط الاجتماعي تساعد المرء أن يخطو أولى خطواته نحو (اعرف نفسك) وفق الشرط الفلسفي وليس الشرط الديني، فمعرفة النفس فلسفياً تعني النظر لها بموضوعية امبيريقية تفتح آفاقاً جديدة في (علم النفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة.... الخ) لينفتح العقل الإنساني من خلال (اعرف نفسك) على الإنثربولوجيا، بل يصل إلى أقصى معارف الكوزمولوجيا، لأنه فعلاً أدرك المعنى الشاهق القلق في (اعرف نفسك)، بينما هذا المعنى لو طالبت به أحد المتدينين فلن يتجاوز في فهمه منطلقات (اعرف خطاياك)، لترى الهندوسي يشمئز وهو يرى من يأكل اللحم والبيض أو يشرب الحليب، ويرى في ذلك استعلاء ديني يميزه عن الديانات الأخرى لمجرد ميلاده كهندوسي، ومثله ترى اليهودي يستغفر من رؤيته المسيحيين يذبحون الخنزير، ويرى في ذلك استعلاء دينيا يميزه عن هؤلاء المسيحيين (أكلة لحم الخنزير)، بل تجد داخل الدين نفسه صراعات يكفي أن تتأمل داخلها الاستعلاءات المتبادلة بسبب خلافات فقهية ما بين (نكاح متعة) و (نكاح مسيار أو بنية الطلاق) أو (شرب نبيذ) عند الأحناف، وتحريمه عند آخرين.
تخيل أن الشرط الأول للدخول إلى فضاء التفكير الفلسفي هو (اعرف نفسك) ولن يستطيعه من أمضى حياته وفق الشرط الديني في (اعرف خطاياك) فقط منتظراً موته/آخرته، فلم يستوعب الشرط الفكري في عبارة (اعرف نفسك) في هذه الحياة التي جعلت سقراط فيلسوفاً لأنه ـــــــ بكل بساطة صعبة ــــــ الوحيد بين الناس الذي عرف أنه (لا يعرف) فكان يستخرج من رحم كل إجابة سؤالاً نقدياً يحطم به كل دوغمائية يحملها من يقول: (أنه يعرف)، لكن هذه الطريقة في (المعرفة والممارسة) أصبحت نتيجتها محسومة سلفاً في تكرار مصير سقراط بأشكال مختلفة طيلة التاريخ الإنساني.
لست مثقفاً وفق شرط فيصل دراج ذلك الشرط الممتد عبر آلاف السنين وصولاً إلى معبد دلفي وحوارات سقراط على (اعرف نفسك)، وأكثرنا (تثاقفاً) لن يتجاوز (مكر الثقافة) في كتابة (رواية) حقيقية، وهنا السؤال الصعب في إضافة كلمة (حقيقية) إلى (رواية) وهي من نسج الخيال، والأمر ببساطة لا يتجاوز مثلاً أن تقرأ (أولاد حارتنا) فتدرك خطورة أن يغامر معتوه بقطع رقبتك لأنك كتبت (رواية) حقيقية، فهل الروائي نجيب محفوظ لا يستحق وصف «مثقف»!؟!!.
لست مثقفاً يا من أحسن الظن بي لأكون ضمن (مثلثه) الثقافي، بل لست مثقفاً وفق شرطي الشخصي على نفسي، لكني أقبله (انزلاقا) على الزمكان (اللزج) لأرى شاباً يتناول فلسفة كانط بالانتقاد العقائدي وليس النقد (إنه صحوي جديد)، وأنا منذ ربع قرن أكرر على نفسي قراءة (نقد العقل المحض) لكانط، مرة بترجمة الشيباني باسم (نقد العقل المجرد) ومرة بترجمة موسى وهبة وأخيراً ترجمة ــــــ راقت لي ــــــ لغانم هنا، ورغم ذلك (لم أجرؤ) على اقتحام كانط رغم أني (هضمت) بضعة أفكار في فلسفته، فكيف بالحديث عنها عموماً، ربما الشباب أذكى، وربما أنا أقل شجاعة، فكيف يكون المرء (مثقفاً) بلا ذكاء ولا شجاعة!! وأنا هنا أعترف أني لا أملك هذين (النوعين) من الذكاء الصحوي والشجاعة الدوغمائية، فالذكاء أنواع والشجاعة كذلك، ليس مهماً (كله عند العرب صابون).
لست مثقفاً يا محسن الظن بي، فأنا مع فيصل دراج في شرطه الثقافي الذي لم أصله حتى الآن، ولست مع فيصل دراج في مضمرات حديثه لفك صندوق باندورا باسم (الأمل الثقافي) لمزاجية (أناركية/لاسلطوية)، وأخيراً... كيف لا يكون بعض الشعراء مثقفين كبار، وأنا أستعير كلمات أحدهم يا (سَمِي أبي) فأقول لك: (أترك يدي لا تعطني يدكا... تقيدني بأغلال من الماضي... وأغلال من الآتي، وحبل من مسد..... أطلق يدي حتماً ستعرفني، وأعرف من أنا).