جبران خليل جبران (1883 - 1931) قامة عربيّة وعالميّة بارزة في عالَم الأدب والإبداع. هو الشاعر، الكاتب، الرسّام، النحّات، المفكّر الذي طَبَعَ الأدبَ العربيّ بأسلوبه المُستحدَث، المتحرِّر من الأساليب الأدبيّة الموروثة، والهادل بالنّزعة الإنسانيّة وترانيم المحبّة والكونيّة. إنّهُ صاحبُ «النبيّ» وكفى!

أَزهرت في حياة جبران مجموعةُ نساءٍ أبرزهنّ ماري هاسكل، ميشلين، جوزفين بريستون بيبودي، ماري قهوجي، ماري الخوري، حلا الظاهر، سلطانة تابت، إميلي ميشيل، شارلوت تِلِر، بربارة يونغ، ماريتا لوسن، هيلانة غسطين، مي زيادة، روز سيسيل أونيل. نساء جبران من منظور ميخائيل نعيمة

بعد وفاة جبران، أَصدر ميخائيل نعيمة (1889 - 1988) كتابه «جبران خليل جبران، حياته، موته، أدبُهُ، فنُّهُ». الكتاب أشبه بسيرةٍ ذاتيّة غَيريّة، دوَّن فيها نعيمة مِن بؤرته وخياله فصولًا في حياة جبران، وغاصَ في أمورٍ حسّاسةٍ في حياته الشخصيّة، منها علاقاته بالنساء، حيث نَعَتَها بغَير المُشرِّفة. أعطى نعيمة في كتابه هذا، صورةً عن جبران الآخر في علاقته بالمرأة.


تحدّث نعيمة عن المرأة الأولى في حياة جبران ناعتًا إيّاها بـ «الملاك الحارس»، ووضَعَ هذا الاسم بين هلاليْن ويقصد بذلك الشاعرة الأمريكية جوزفين بيبودي (1874 - 1922) المُلقَّبة بـ «بوزي»، التي التقتْ جبران في معرضٍ في بوسطن، والتي يَنعتها إسكندر نجّار في كتابه «قاموس جبران خليل جبران» بملهمة جبران الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية. يسرد نعيمة كيف تعرف جبران إلى المرأة في مَرسمِ أحدِ المصوّرين، حيث خجلَ جبران، ونكسَ عَينيْه إلى الأرض كي لا يرى لباسَها الفاضح، لكنّها قبّلته. ويدّعي نعيمة أنّ العلاقةَ بينهما تطوّرت، فيزورها جبران في غياب زوجها، يعصف بها الجنسُ جاعلةً جبران ابن الأربعة عشر عامًا «يودّعُ صباه وعفّة الصبا وطهارته».

يقول الكاتب طنسي زكّا قي كتابه «بين نعيمة وجبران» - 1971 (ص 168 - 169)، إنّ غرام جبران في «خيالات بوسطن» كما صوّره نعيمة هو ضربٌ من الخيال، اعتمادًا على قول ماري هاسكل سنة 1912 الذي نقلتْ فيه كلام جبران: «إنّه ظلَّ صبيًّا من الناحية الجسديّة حتّى وقتٍ متأخّر، فهو لم يَصل طور الرجولة النفسيّة إلّا قبلَ أربع سنوات أو خمس، وأنّه كان خجولًا يُصارع خجله». كما يورد طنسي زكّا تصريحَ نعيمة لمجلّة «الحكمة» البيروتيّة، أنّهُ لا يعرفُ شيئًا عن خصوصيّات جبران، ما يضفي اللّاواقعيّة والخياليّة على وسْمه جبران بهذه السمات والخصال. كذلك يصوِّر نعيمة علاقة جبران بالمدرِّسة الفرنسيّة ميشلين، بشكلٍ يَظهر فيه جبران قاسيًا مُخادعًا، على النقيض من جبران المرنّم بالمحبّة والأخوّة والعدالة. تبدأ علاقةُ جبران بميشلين حين تعرّف إليها أثناء زيارةٍ قامَ بها إلى مدرسة «مس هاسكل» للبنات في بوسطن، حيث تعمل ميشلين، ويُعجب جبران بجمالها «كأنّها الراديوم تَحرق ولا تَحترِق». يقول نعيمة إنّ ميشلين أحبّت جبران، وكانت غايتها أن يتزوّجها زواجًا شرعيًّا، بينما كانت غايةُ جبران الهروب من الزواج. ويقول نعيمة إنّ ميشلين حملت من جبران وأجهضت، والغريب أنّ نعيمة يورِدُ عتاب ميشلين إثر هذه الحادثة في الطبعتَيْن الأولى والثانية من كتابه عن جبران. ويقول طنسي زكّا (ص 175) إنّ إقرار نعيمة بأنّ ما نَسبه إلى جبران ممّا يتعلّق بالجنين لم يكُن واقعيًّا، ما دفعه إلى حذْفهِ من كتابه، بدءًا من الطبعة الثالثة، كما يدحض طنسي زكّا ادّعاء نعيمة بأنّ ميشلين لحقت بجبران إلى باريس، لأنّها كانت في باريس حين أتى جبران إلى هناك. ويشير زكّا إلى أنّ علاقة جبران بميشلين في باريس كانت من النوع الذي تسيطر فيه العاطفة الشاعريّة الرومانتيكيّة.

يتحدّث نعيمة عن علاقة جبران بماري هاسكل، التي تعرّف إليها في المعرض الأوّل الذي أقامه في بوسطن، حيث وقفتْ وقفاتٍ طويلة متأمّلةً لوحاته. وماري هاسكل هي رئيسة مدرسة «مسّ هاسكل» للبنات في بوسطن. لقد أُعجبت برسومات جبران، وعَرضت عليه أن يذهب إلى باريس لدراسة الفنّ، فَقَبِلَ جبران عرضَها، وسافرَ إلى باريس، وتكفَّلت هي بمصاريفه، إضافة إلى دعمه الماديّ بدفع مبلغٍ شهريٍّ له بقيمة خمسة وسبعين دولارًا. كَتَبَ نعيمة أنّ هدفَ جبران من هذه العلاقة هو ابتزاز المال منها لا غير. هذه التّهم يدحضها كثيرٌ من النقاد ويرون فيها تشويهًا لصورة جبران في علاقته مع المرأة.

أضواء توفيق صايغ على جبران

يُعتبر «أضواء جديدة على جبران» (1966)، كتاب الشاعر الفلسطينيّ الحداثيّ توفيق صايغ (1923 - 1971)، أكثر المراجع موثوقيّة في الإضاءة على علاقات جبران خليل جبران بالنساء وكشْفها، ولا سيّما بماري هاسكل وميشلين، لأنّه يعتمد البحث العلميّ، أي الوثائق الخطيّة. في إحدى زيارات توفيق صايغ للقاهرة، التقى د. منح خوري (1918 - 1997) أستاذ اللّغة والأدب العربي في جامعة بيركلي، الذي حثّه على دراسة رسائل ماري هاسكل إلى جبران ونشرها، والتي كانت موجودة في مكتبة جامعة نورث كارولينا. وماري هاسكل هي المرأة التي كان لها شأنٌ كبيرٌ في حياة جبران، إذ عرفته منذ عامه الحادي والعشرين، وظلَّت صديقته وداعمته الماديّة والروحيّة حتّى وفاته. ويذكر توفيق صايغ أنّ الرسائل تضمّ 325 رسالة من جبران إلى ماري هاسكل، وزهاء 300 رسالة من ماري هاسكل إلى جبران، وتتراوح في تاريخها ما بين 1908 - 1931. ويَذكر صايغ أنّ القائم على مكتبة جامعة نورث كارولينا، أبلغه أنّ هذه الرسائل هي جزء من الوثائق التي أودعتها ماري هاسكل في المكتبة؛ فهناك كميّات كبيرة من الأوراق والمخطوطات والوثائق المتعلّقة بحياتها وحياة جبران، وخصوصًا مذكّراته ويوميّاته ورسوماته.

يرى توفيق صايغ أنّ معظم السِّيَر التي وُضعتْ عن جبران يغلب عليها الخيال، أي أنّ أحداثها روائيّة وغير واقعيّة. ويتحدّث صايغ عن مشروعه هذا المهمّ في كشْفِ الحقائق ودحْضِ الافتراءات والتُّهم التي نُسبت إلى جبران «بقي أن أقول إنّ هذه الأوراق، إذ تسرد أحداثًا واقعيّة وأقوالًا واقعيّة، تُسمعنا صوتَ جبران الصحيح وتشكِّل أفضل صورة ذاتيّة له يُمكن لنا أن نحصل عليها» (ص 21). يكتب صايغ أنّ جبران يحمل فكرة تنويريّة عن المرأة، ففي إحدى رسائله لمَي زيادة غير المؤرَّخة يقول «أنا مديون بكلّ ما هو (أنا) إلى المرأة منذ كنتُ طفلًا حتّى السّاعة. والمرأة تفتح النوافذ في بصري والأبواب في روحي». ويكشف صايغ أنّ رسائل جبران من سنة 1913، تكشف أنّه عاشَ من دون علاقات عاطفيّة، ومن دون وصالٍ جنسيّ. وفي إحدى رسائله لماري هاسكل يبوح جبران بأنّ نَوع المرأة التي تستهويه جسديًّا هو نوعٌ نادرٌ جدًّا، لم يَجِد منه في حياته كلّها سوى ثلاث نساء أو أربع. وفي أكثر من مرّة يتحدّث جبران عن إحجامه عن العلاقات الجنسيّة والعاطفيّة، ويصبغ حياته بالرهْبَنة.

ميشلين الفرنسية التي استحلاها جبران

يَرِدُ ذكرها في الرسائل 33 مرّة، ولا يَرِدُ أيّ ذكر عن حَملها من جبران، كما ادّعى نعيمة. سَكَنَ جبران في أمريكا في غرفةٍ صغيرة على مقربة من حيث قطنت ميشلين والتقته، وقد استحلاها جبران؛ ثمّ سافرتْ إلى باريس لدراسة المسرح قبل مجيء جبران إليها. وبعد عودة الاثنَيْن إلى أمريكا، زارته ميشلين مرّاتٍ عدّة، لكن بعد العام 1913 يَرِدُ ذكرها في رسائل جبران وهاسكل بشكلٍ عابر، ثمّ تتزوّج في العام 1914 من شخصٍ اسمه لامار هاردي. عاشت في أمريكا وماتت هناك بعد 6 أشهر من وفاة جبران. تؤكِّد الرسائل التي اعتمدها جبران، أنّه لم تكُن هناك من علاقةٍ عاطفيّة بين جبران وميشلين.

جبران وماري هاسكل

تَكشف رسائل جبران لماري اعترافه بدَورها في أن يُصبح فنّانًا. فقد كانت مُرشدته، كما أنّها أعانته أدبيًّا، إذ كانت تقوم بفحْصِ كتاباته الإنكليزيّة وتصحيحها. إنّ ماري هاسكل، التي تَكبر جبرانَ بعشرِ سنين، آمنت به منذ البداية، وسهَّلت سفره إلى باريس، وأمدَّته بالدّعم الماديّ بشكلٍ شهريّ.

يورد صايغ أنّ ماري هاسكل تشكو في يوميّاتها (1912) من أنّ جبران لا يضمّن رسائله لها عباراتِ الحُبّ؛ بينما هي كانت تناديه مُداعِبَةً «يا خروفي»، فتكتب له في العام 1912 قائلة: «إنّ هاتيَنْ اليديْن الحلوتيْن الهشَّتيْن تحبّان، يا خروفي، أن تسقياك الحليب، وأن تغسلا حوافرك، وأن تعقدا شريطًا جديدًا أزرق حول عنقك». وفي آخر رسالة كتبتها له قَبل وفاته في العام 1931 تنعته بـ «حبّي، حبّي، بَرَكتي». تكشف الرسائل أنّ جبران طلبَ الزواجَ منها في العام 1910، لكنّها في شهر نيسان/ أبريل 1911 تصل إلى قرارها الرافض للزواج منه، مع أنّها وفق اعترافها كانت في قرارة نفسها تفكّر في الزواج منه. وتَكشف رسائل ماري هاسكل تردُّدَ جبران وفَزعَهُ من الزواج. وأنّه كَتَبَ لها أنّ الزواجات الحقيقيّة قليلة جدًّا. ويصل صايغ في دراسته لرسائل الاثنَيْن إلى خُلاصةٍ يقول فيها: «واضحٌ من الأوراق أنّ أيّة علاقة جسديّة حميمة بين جبران وماري كانت علاقة محدودة جزئيّة لم تَصل ذروتها الطبيعيّة قطّ، وإنّ الطرف منهما الذي كان مسؤولًا عن إبقائها محدودة جزئيّة وعن صدِّها عن الوصول إلى حيث كان مُقدَّرًا لها أن تصل، إنّما كان هو جبران لا ماري» (ص 105).

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق