فالتسامح اليوم يعد من أهم قضايا التعايش الإنساني في هذا العصر. فمن خلال المغزى الإنساني لفكرة التسامح والمتضمنة بالضرورة قبول الآخر والتعايش معه ينظر إليه حضاريًا وإنسانيًا فكرًا منفتحًا في تجسير العلاقات الإنسانية وفق مبادئ وقيم إنسانية تسامحية.
فالتسامح من هذا المنظور يظهر في جميع المجتمعات والثقافات فليس مقصورًا على مجتمع أو ثقافة بعينها.
وقد قدم المفكر إبراهيم أعراب توصيفًا منهجيًا للتسامح تتبع من خلاله مفهوم التسامح ومفرداته وأشكاله مستندًا على حقائق التاريخ ودلالات الواقع وصورته في الثقافات والمجتمعات الحديثة.
فالتسامح تاريخيًا كما يطالعنا به (معجم لالاند) يرجع إلى النشأة التاريخية لكلمة توليرانس «وتطورها والتي ولدت في القرن 16 م إبان الحروب والصراعات الدينية التي عرفتها أوروبا ما بين الكاثوليك والبروتستانت، وانتهى الكاثوليك بالتسامح مع البروتستانت وبشكل متبادل. ثم أصبح يمارس اتجاه كل المعتقدات والديانات.
وفي القرن 19 انتشر ليشمل مجال الفكر وحرية التعبير ولم يكن ليحدث هذا التحول والانتقال إلا بعد حروب وصراعات دينية طويلة عاشتها دول أوربا في ألمانيا وهولند وإنجلترا وإسبانيا وفرنسا.
وهذا يعني أن التسامح كفكرة ورد فعل على التعصب والصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت التي أنهكت أوروبا ولم يكن من حل أمام مفكريها وفلاسفتها ومصلحيها الدينيين إلا البحث عن حل لهذه المعضلة الدينية بالدعوة إلى التسامح المتبادل والاعتراف بالحق في الاختلاف وإباحة حرية الاعتقاد الديني.
وبهذا يكون التسامح في هذا السياق التاريخي وليد حركة الإصلاح الديني الأوروبي.
وفي القرن 19 برزت ملامح الحداثة الأوربية ومظاهرها وما حملته من قيم ومفاهيم وأفكار جديدة، فبرز التسامح كفضيلة أخلاقية وقيمة إنسانية تشكل في كتابات بعض المفكرين الأوروبيين وبخاصة فولتير الذي يعتبره الكثيرون فيلسوف التسامح ومقولته الشهيرة (كلنا ضعفاء فلنتسامح).
توج ذلك إعلان 1995 سنة دولية من أجل التسامح تبعها إصدار وثيقة إعلان المبادئ والذي تم فيه الربط بين التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم. وبالتالي ارتقت بالتسامح ليصبح قيمة قانونية ينبغي حمايتها عالميًا، وهذا يكشف أن التسامح أصبح مطلبًا أساسيًا وحاجة ضرورية من أجل تأسيس وبناء ثقافة جديدة للسلام بعد أن خرج العالم من كابوس ما عرف بالحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والاتحاد السوفيتي سابقًا إلا أن الحقبة المعاصرة هذه التي تتميز بانهيار القطبية الثنائية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط المعسكر الاشتراكي عرفت إنبعاث نزعات عرقية وصعود حركات يمينية ودينية متطرفة في [العالم] تشترك في التعصب ومعاداة وكراهية الآخر، فهذه الأشكال من اللاتسامح الجديدة دفعت بالمجتمع الدولي لاستعادة التسامح واكتشاف فضائله. كما أدت إلى إثارة نقاشات وسجالات فلسفية ونظرية بين النخب الثقافية والسياسية حول حدود التسامح. أي ما يمكن التسامح معه وما لا يمكن ولم يكن المثقفون العرب المعاصرون بعيدين عن هذا السجال الذي ولده مناخ دولي يتسم بانتعاش أيديولوجيات التعصب واللاتسامح.
فهناك إذا قضايا ومشاكل راهنة تعرفها المجتمعات المعاصرة تجعل من سؤال التسامح موضوعًا للتفكير في أبعاده المتعددة.
لكن السؤال كيف ينظر المثقف العربي المعاصر للتسامح وهل عرفته الثقافة العربية الإسلامية؟
أي هل كان مفكرًا فيه داخل هذه الثقافة أم أنه يدخل ضمن اللامفكر فيه في الفكر العربي الإسلامي؟
فـ (محمد أركون) تطرق إلى هذه المسألة في محاضرة له ألقاها في ندوة قرطاج بتونس حول «التسامح». مؤكدًا أن التسامح لا يمكن فهمه فهمًا نقديًا إلا بربطه بمفهوم اللاتسامح وما لا يمكن التسامح فيه ليخلص إلى التأكيد على أن التسامح كمفهوم لم يعرفه السياق العربي الإسلامي تاريخيًا وأنه يعتبر واحدًا من أنواع اللامفكر فيه في الفكر العربي الإسلامي.
أما (محمد عابد الجابري)، فإن الرؤية عنده مخالفة لرؤية أركون داعيًا إلى تأصيل مفهوم التسامح في الحضارة العربية والتراث الإسلامي وإعادة بناء مفهوم التسامح بالصورة التي تجعله يعبر داخل الثقافة العربية عن المعنى الذي أعطي له داخل الفكر الأوروبي، وهو بهذه النتيجة يضع أطروحته في تعارض مع أطروحة الدكتور محمد أركون.
أما الشيخ صالح الحصين فيناقش مسألة التسامح في كتابه (التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب)، ويعالجها بمنهج نقدي رصين وعبر سياقات متعددة بدأ الشيخ صالح الحصين كتابه التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب بتأصيل مفهوم التسامح، وتتبع معاني التسامح ومفهومه في القرآن الكريم والسنة النبوية واختار بعض الآيات الدالة على مستويات متعددة للدلالة على عدم وجود دين أعطى كل هذه المساحة في الحض على التسامح، والحرص على أن يشيع بين أتباعه، فالرحمة أساس الدين الإسلامي مع الحرص على التأكيد أن التسامح لا يعني المذلة أو الهوان، ولا يعني التسوية بين المسيء والمحسن، مستشهدًا في ذلك بما قالته المستشرقة الإيطالية Lora veccia vaglieri في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: لقد امتزج فيه التسامح بالعدل الخصلتان الأكثر نبلا في الإنسان مما يدل دلالة واضحة أن التسامح مفهوم مركزي في القرآن الكريم وفعل أصيل من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولعل إيراد الشيخ صالح الحصين مفردات (العفو والتسامح والمغفرة والرحمة) وهي كلها مفردات تحيل على معنى التسامح في أعلى صوره الإنسانية كان بهدف الإبانة أن الأمر في الإسلام حيال فكرة التسامح إنما هو واجب ومسؤولية أخلاقية فالتسامح لا يعني فقط عدم العدوان، وإنما هو أيضًا قيمة مطلقة يلتزم بها لذاتها، فالقرآن الكريم كرر ذكر الرحمة والرأفة والعفو والصفح والمغفرة والصبر أكثر من تسعمائة مرة وأن الرحمة كصفة نسبت لله سبحانه وتعالى ولرسوله الكريم في مواضع كثيرة جدًا في القرآن الكريم، منها قوله تعالى «هو الرحمن الرحيم» و«كتب على نفسه الرحمة»، «فاصفح عنهم وقل سلام» وغير ذلك الكثير من المواضع التي لم تخل من ذكر الرحمة لله سبحانه وتعالى، ومدح الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من كونه رءوف رحيم في أكثر من موضع.
فمفهوم التسامح، وفق الدين الإسلامي قريب في تصوره من التصور الذي وضعته منظمة اليونسكو حين قررت أنه يتفق تمامًا مع احترام حقوق الإنسان القول أن الأخذ بالتسامح لا يعني التسامح تجاه الظلم الاجتماعي أو تنازل الإنسان عن معتقداته، أو التغاضي عن بعضها. إنه يعني أن تكون للإنسان الحرية في التزام ما يعتقده وقبول حرية الآخر في الالتزام بما يعتقده.
ويورد الحصين مقتبسا للكاتب الغربي (جوستاف لوبون) في هذا الصدد عن اتباع خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم لمنهجه في التسامح قائلا: كانت الطريق التي يجب على الخلفاء أن يسلكوها واضحة فعرفوا كيف يحجمون عن حمل أحد بالقوة على ترك دينه وأعلنوا في كل مكان أنهم يحترمون عقائد الشعوب وأعرافها وعاداتها.
ويقول M. N. ROY: (الخلفية التاريخية للإسلام والظروف الاجتماعية التي نشأ فيها طبعته بطابع التسامح الذي قد يظهر للعين غير المدركة لا يتفق مع روح التعصب - التي اعتدنا تقليديًا أن نربطها بالإسلام، ولكن لا إله إلا الله وحدها تخلق التسامح).
ولعل أهم قيمة قاد إليها التسامح هي أن ذلك التسامح يخلق شعورًا عميقًا بالتواضع والمساواة بصوره تنفي الطبقية والعنصرية حتى في يوميات الحياه وعادياتها.
كما جعل منها سببًا كبيرًا ومؤثرًا في شيوع مفهوم التسامح، ولعل وجود الطوائف الدينية كاليهود والمسيحيين في المشرق العربي عبر التاريخ مما يؤكد قيمة التسامح التي تنفي الكراهية وتنبذ التعصب الإكراه.
فالإسلام بحسب كلام الكاتب البريطاني wells. (أوجد مجتمعا تحرر من القسوة والاضطهاد الاجتماعي، إلى درجة لم يبلغها أي مجتمع من قبل).
كما ينقل الشيخ الحصين عنه أيضًا: (إن الإسلام انتشر وساد لأنه قدم للإنسان أفضل نظام سياسي اجتماعي يمكن أن يمنحه الزمان، هذا النظام الذي يمثل أوسع وأنقى وأنظف فكرة أمكن حتى الآن أن تطبق عمليًا على الأرض).