يقول لي في رسالة إلكترونية مطولة (لقد جمعت لك أخي، علي، عبر العام الأخير وحده من بعض مقاطع أفكارك ومتن بعض مقالاتك ما يشير إلى نزعة اشتراكية خفية، وآمل منك أن تنتبه إلى مثل هذا لأن لبوس الأفكار والمذاهب عادة ما يبدأ من منطلقات لا يصحو القائل منها إلا بعد زمن وقد أصبحت له قيداً وسواراً لا يمكن الفكاك منه). والمهم أن الشواهد التي يشير إليها هذا القارئ المفكر الوسطي الذي أحترمه وأثق برأيه، ومن بين جل ما كتبت هي تلك المقالات التي كنت أعقد فيها مقارنات ومقاربات بين أحوال الأغنياء وظروف الفقراء. هو يؤكد أن الخيط الفكري الذي يجعل من بعض مواقفي الكتابية تميل لمصلحة الفقراء ليس بالضرورة انحيازاً إلى ظروفهم ومحاولات إضاءتها وفضح بعض صورها، بقدر ما هو الدافع الفكري الذي يدفع بمواقفي إلى (كراهية رأس المال) من منطلق أيديولوجي ينبع من نزعة يسارية، أكثر من كونه تعاطفاً تلقائياً مع ظروف الفقر وأهله. يختار لي صديقي الأثير عدداً من المفردات اللغوية التي يرى أنها أصبحت – لزمة – لمقالاتي عند مثل هذه المقاربات بين رأس المال وبين الفقر من شاكلة (المسحوقين – المضطهدين – المعدمين – المظلومين...) إلى آخر القائمة التي يرى أنها ترجمة حرفية لأدبيات اليسار الاشتراكي وحزمة من قاموسه اللغوي. وقفت أمام رسالته الطويلة، طويلاً، ثم لأقف على السؤال: هل أنا اشتراكي، أو هل تخفي نفسي من حيث لا أدري موقفاً يسارياً لتأتي الرسالة بالحقيقة الصادمة، وهل أدمنت ميلاً في قراءاتي ومكتبتي لصالح أدبيات الفكر الاشتراكي والجبهة اليسارية؟ والجواب الصادم مرة أخرى هو العكس. أنا حتى في جدول حياتي اليومي أكبح في نفسي ميلها الاندفاعي إلى حب – الرأسمالية – حد العشق، وأنا مؤمن أن هذا الحب الجارف هو ميل فطري طبيعي للنفس السوية. أنا مؤمن أن – الرأسمالية – هي جوهر صراع المرء مع نفسه لأنه الصراع بين الفطرة الطبيعية للإنسان وبين الحق الإلهي المترتب على رأس المال. أنا مؤمن أن – الرأسمالية – للمرء هي الحق الطبيعي المشروع، ولكن التزاماً بشرطين أساسيين: الأول أن تكون الرأسمالية نزيهة شريفة ومن المال الحلال والثاني، أن يؤدي المرء حقوقها وفي الحد الأدنى زكاتها المشروعة.
وهكذا هي المعادلة حين يلد كل امرئ وفي ثناياه من حيث لا يدري – رأسمالي – خفي ثم يمضي حياته في صراعه مع هذا الجسد الخفي في أحشائه ما بين قوله تعالى (وتحبون المال حباً جماً) وبين قوله جل في علاه (وفي أموالهم حق معلوم). سأعترف أخي الكريم أن في النفس ميلاً إلى دروب جون آدم سميث وكراهية باستفزاز لكتاب (رأس المال) لكارل ماركس.
وحين أنحاز بالميل الاجتماعي إلى جوار الفقراء، فسأكتب فضل الأغنياء عليهم وعلى مجتمعاتهم وحتى لو اختلفنا في تفصيل الحديث الشريف (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف) فأنا مؤمن أن – رأس المال – قوة وفضل على الفقراء والمضطهدين والمحرومين... وكل ما في القاموس إلى آخر القائمة. الفقراء عالة على الأغنياء وخذ هذه الشواهد: في غرب بوتسوانا الأفريقية، حيث يعيش واحد من أفقر مجتمعات هذه الأرض ثارت الجموع بالآلاف ثم أحرقت منزل ومقر شركة مستثمر هولندي أبيض بحجة أن استثماراته جعلت من الآلاف أسرى لفواتيره وخدمات شركته حين اكتشف الأفريقي أنه يعمل طوال الشهر ليسدد فواتير الماء والكهرباء وهواتف – الإسقاط – التقليدي ثم وجدوا أن هذا المستثمر يعيش حياة البرجواز الباذخة وهم في أكوام القش التراثية تحت إضاءة – لمبة – وبجوار هاتف للثرثرة. وبعد ثلاث سنوات من هذا العصيان المدني الهائل الذي حول حياة المستثمر إلى كابوس وخوف قرر في لحظة واحدة أن يلم كل متاعه وأن يرحل عائداً بكل شيء إلى بلده الأم في جنوب أفريقيا. وفي الليلة التالية اكتشف سكان ما يربو على 300 قرية أنهم عادوا للظلام الدامس. اكتشفوا أن الذهاب للقرية المجاورة يحتاج إلى ساعات من السير من أجل قضاء حاجة كان – الهاتف – يقضيها في ظرف دقيقة. وأكثر من هذا وجد ما يقرب من خمسة آلاف فرد أفريقي أنفسهم بلا عمل بعد أن كانوا موظفين في شركاته المختلفة بمعدل حسابي بمئة دولار للفرد، فماذا فعل هؤلاء نهاية أول شهر: أحرقوا آلاف العشش التي ابتدأت العصيان ثم تركتهم متسكعي شوارع بعد نهاية الوظيفة. اكتشف هؤلاء الأفارقة أنهم كانوا يحاربون ثلاثة أشياء بلا سبب: الفرد الغني في وجه الجماعة والغنى الفاحش في بيئة الفقر والأبيض الأوروبي في الثقافة القبائلية الأفريقية. لم ينتبهوا لحظة واحدة لفضله عليهم وإنما استرجعوا بسذاجة ما ظنوا أنها أفضالهم عليه وحين غادر اكتشفوا مباشرة كيف عادوا من بعده إلى الظلام والقطيعة.
سؤالي الأخير: كم هي آلاف الأسر بيننا اليوم التي تعيش على فضل أفراد أغنياء مثل الراجحي وبن لادن وجميل والعليان والجفالي والرشيد والراشد وبقية الأسماء التي لا نذكر منها إلا الوجه الدراكولي ونحن نعرف أن هذا الوجه يخفي بقية الوجوه. وباختصار يستطيع أفضل الفقراء أن يعيش لنفسه بالكفاف بينما يعيش على ضعاف الأغنياء آلاف الجداول والعوائل.