حين أصدر عالِم الاجتماع الإيطاليّ سابينو أكوافيفا كتاب «أفول المقدّس في الحضارة الصناعيّة» (1961)، بدا حينها بمثابة النعي للدّين في مُجتمعاتٍ أوروبيّة تحثّ الخطى نحو «اللّاتديُّن» و«العَلْمَنة». لكنّ تداعيات العَوْلَمة على أوروبا في الزمن الرّاهن أَمْلَت إعادةَ نَظَرٍ في صيغة العلاقة ومضامينها بين دائرة الإيمان الخصوصيّة ودائرة السياسة العموميّة، لتلوح بوادر رهانٍ على وظائف مُغايرة للدّين في مُجتمعاتٍ تَشرّبت العلمانيّة، وتعيش في أجواءِ مناخاتِ ما بعد العلمانيّة، وهو جوهر ما تطرَّق إليه كلٌّ من شارل تايلور ويورغن هابرماس في حقبتنا الحاليّة عن شيوعِ نمطٍ جديدٍ من التعايُش بين الدّين والعَلْمَنة يتغاير مع ما سادَ سابقا؛ بما يحثّ على تجاوُز النَّظر «العلمانوي» للحداثة جرّاء حضور الدّين في الفضاء العموميّ الذي أضحى واضحا وجليّا.

ولربّما لإحاطةٍ أشمل بالموضوع ينبغي تناوُل العلاقة المُستجدِّة بين الدّينيّ والسياسيّ من ضمن إطار التحوّل الجاري داخل مرحلة تاريخيّة، حيث قيلَ إنّ الإنسان هو «كائن مُتديّن»، وقيلَ أيضا هو «كائن سياسي» أو «مدني»، والواقع أن الإنسان هو تلك العناصر وغيرها مُجتمعةً، بما يَجعل المحدّدات القابعة خلف السلوك البشري لا تعرف الانحباس تحت لونٍ واحد. ومن ضمن السياق المسيحيّ، الغربيّ تحديدا، عادَ في العقود الأخيرة مصطلح «اللّاهوت السياسي» للتداوُل، وإن كان المفهوم يرمي بجذوره بعيدا في أطروحات القدّيس أوغسطين الإفريقي، حيث استُعيدت الأطروحة في نطاقِ البحثِ عن إضفاءِ شرعيّةٍ على الممارسة السياسيّة مع كارل شميت، وكذلك في نطاق التوظيف اليساري للدّين مع لاهوت التحرّر، وبالمِثل في نطاقِ التوظيف اليمينيّ المكثَّف مع السياسات الأمريكيّة المتعاقبة منذ عهد الرئيس جيمي كارتر. لكنّ المُلاحَظ أنّ اللّاهوت السياسي العائد يتّسم بطابعَيْن: لاهوت سياسي عمودي على غرار ما يدعو إليه شميت، بحثا عن بثّ حيويّة في النّظام اللّيبرالي، ولاهوت سياسي أُفقي، يُمكن إدراج هابرماس وتايلور وتوكفيل من ضمن أنصاره، ويسعى إلى بناء توازناتٍ مُستجدَّة داخل الفضاء العمومي.

والسؤال الذي يعنينا بالأساس هو: ما معنى أن يطلّ الدّين على السياسة في أوروبا اليوم؟ ليست المسألة أَنْجَلةً للسياسة أو تسييسا للمسيحيّة بطريقةٍ اقتحاميّة فجّة، وإنمّا تأتي العمليّة سياقيّة، يتعايش فيها أحد المكوّنَيْن مع الآخر بطريقةٍ متداخلة وبطيئة، ويغدو الدّين مخزونا أنثروبولوجيّا مُعبِّرا عن خصوصيّات هويّة، وليس تعاليم عقديّة أو منظورات لاهوتيّة صارمة.


إذ منذ مُحاوَرة البابا المُستقيل راتسينغر الفيلسوفَ هابرماس في موناكو (2004) تحت شعار «حوار العقل والإيمان»، طَفَتْ على سطح الفكر الأوروبيّ إرهاصاتٌ لافتة في علاقة الدّين بالسياسة، وغدا الخطابُ السياسيّ مُستعيرا جملةً من المفاهيم والمقولات الدّينيّة، بعدما كان حضورها ضئيلا أو مُنعدما. وفي الجوهر بدا سؤال: إلى أين تجرّ العلمانيّة أوروبا؟ حاضرا بقوّة، ولا سيّما أنّ مصائر العلمانيّة المتشدّدة، خصوصا في شكلها اللّائكي اليعقوبي، جرَّت فئاتٍ واسعة إلى العدميّة، وحَكمت على مساراتٍ ديمقراطيّة بالتميُّع أو الخواء، فالغرب «البراغماتي» بدا مُتشكّكا من مؤدّى خياراته طيلة العقود الفائتة، ولا سيّما أنّ الجسم السياسي الأوروبي يتحرّك داخل خارطة سياسيّة ذات مشارب إيديولوجيّة متنوّعة، ويعبِّر عن روافد شتّى وتوجُّهات عدّة تبلغ حدّ التنافُر. كما أنّه يشتغل داخل ضوابط سياسيّة يُطلَق عليها تجاوزا «العلمانيّة» أو «اللّائكيّة»، وهي في واقع الأمر نظام اشتغال ارتضاه الجميع، وبات مُتقاسَما بين سائر المكوِّنات بمختلف خلفيّاتها اليمينيّة واليساريّة والدّينيّة واللّادينيّة.

عودة الدّين ليست نفيا للحداثة

وليس المقصود بإدخال تحويراتٍ في علاقة الدّين بالسياسة، في زمن وَهَنِ الديمقراطيّة، ثأرَ الدّين أو اندحارَ العَلْمَنة، كما قد يُصوَّر الأمر أحيانا، وإنمّا تجري الأمور من ضمن ما تقتضيه مصلحةُ الدولة المُعاصِرة من دَمْجِ الفاعلين الاجتماعيّين النّاطقين باسم الخيارات الدّينيّة في المجال العموميّ - وإن واصلتِ الدولةُ تكريسَ التمايُزِ بين مجالَيْ السياسة والدّين - مقدّرةً ما يُمكن أن تُسهم به الأطراف الدّينيّة في إرساءِ وفاقٍ أخلاقيٍّ قوامه المبادئ الديمقراطيّة، وبشكلٍ لا يعبِّر عن تنصُّل الدولة من الدّين، أو تكريس الخصومة معه، وإنّما ضمن إقرارٍ بدَوره وفاعليّته وإسهامه، وليَقبل العلمانيُّ التحاورَ مع حَمَلة الرؤى الدّينيّة، والعكس أيضا، شَرْط ألّا يدّعي أيٌّ من الطرفَيْن أنّه الأوحد، أو يُمْلي على الجميع رؤيتَه بوساطة الغَلبة. ويأتي تعزُّز دَور الدّين في أوروبا المُعاصرة بعد فتورٍ بالنسيج المُجتمعي، في المُجمل، جرّاء أزمة الديمقراطيّات الغربيّة، والبحث عن نَوعٍ من الصلابة الغائبة في القيَم التي يتطلّع المُجتمع إلى ترسيخها.

غدا هذا المُفتقَدُ مُتداوَلا ومُتكرّرا في خطابات رأس الكنيسة الكبرى في الغرب. فمع قداسة البابا فرنسيس تحضر السياسة جليّةً في مفردات قاموسه، حتّى باتت جملةٌ من المفاهيم مُتواتِرةً في رسائله وعِظاته بشأن مُعالجة قضايا السياسة، على غرار مقولات الاهتداء الأيكولوجي، واقتصاد العَزْل، وتعوْلُم اللّامبالاة، ووثنيّة الدينار، والتطبيع مع البؤس، وهامش العالَم، والحرب العالَميّة المجزَّأة، وهي تمظهرات وعي يصنع البابا من خلالها نظرته إلى السياسة في العالَم، إذ تبدو أوروبا في الزمن الحالي مدعوَّةً إلى مُراجعات عميقة، فالصيغة الدّينيّة السياسيّة التي سادت في «الزمن العلماني» أمام مُراجعاتٍ منشودة للحيلولة دون تفاقُم ترهُّل السياسة من جانب، وتقليص العبء على الدولة من جانبٍ آخر، ولا سيّما أنّ حضور الدّين في أوروبا أضحى جليّا في تحسين أوضاع الناس المعيشيّة بعد الاستهانة بذلك الدور على مدى عقود. فعلى أساس إسهام الأديان في المشروع الأوروبي الاجتماعي والتربوي والتعليمي والخدماتي، يُمكن الحديث عن دَورٍ ملحوظ، فرَّطت فيه الدولةُ تحت مُبرِّر لائكيّة الدولة وحيادها، حول أنّ عودة الدّين ليست نَفيا للحداثة من خلال إبراز مخاطر التشدُّد، إذ المُلاحَظ أنّ هذا المظهر هو مجرّد انحرافٍ داخل إطارٍ عامّ يُمكن إصلاحه وتفاديه.

وفي ظلّ التبدُّل الذي يشوب علاقة الدّيني بالسياسي في أوروبا المُعاصِرة، يتبادر إلى الذهن التساؤل عن الأرضيّة التي تقف عليها القارّة في الرّاهن، حتّى وإن ظلَّت الأزماتُ الاجتماعيّة المُتراكمة والمُعالجات السياسيّة المُرتبِكة سرعان ما تُحوِّل الإجابة إلى ملفٍّ أمني يدفع ضريبَتَها الدخيلُ الوافد. هل ما زالت أرضيّة التراث اليهوديّ المسيحيّ المُهَيْمِنة والطّاغية أمْ جَرَتْ في النهر مياهٌ مُغايرة؟ المُسلمون بمفردهم في أوروبا سيُناهزون بحلول العام 2030 أربعين مليون مواطن، بحسب تقديرات مركز «The Pew Forum on Religion and Public Life» الأمريكي، ناهيك بانحشار تقاليد دينيّة أخرى في أوروبا، وظهور أشكالٍ جديدة من التديُّن، ومن هذا الباب هل يجوز تواصل التنكُّر أو نفي الهويّات المُتحوّلة؟

في كتابٍ أَصدره عالِم الاجتماع الأمريكي رودناي ستارك بعنوان «انتصار الإيمان» (2017)، وهو في المناسبة من أبرز دُعاة «تحرير السوق الدّينيّة»، أَبرز فيه أنّ حالة «اللّاتديُّن» في أوروبا، أي الوجه الرائج والمروَّج، لا تُعبِّر عن الواقع الحقيقي، أوّلا في ظلّ اعتماد معايير لا تتلاءم بدقّة مع توصيفِ الظواهر ورصْدِها، وثانيا في ظلّ مونوبول الدّين، واحتكاره من قِبل مؤسّساتٍ دينيّة مُتحالِفة ضمنيّا مع السياسات الدّينيّة التقليديّة في تلك المُجتمعات، تُضيِّق على التقاليد الحاضرة في أحضان القارّة، سواء المتأتّية منها جرّاء الهجرة أم بموجب التولّدات الحاصلة من داخل البنية الدّينيّة المسيحيّة.

على هذا الأساس، فالدّين في المُجتمعات الأوروبيّة المُعاصِرة ما عاد حديثا عن موروثٍ مسيحي مطعَّم بنكهةٍ يهوديّة، ومدجَّن وفْقَ ضوابط العَلْمَنة، بل أضحى الإسلامُ مع تحوّلاتِ الهجرة عنصرا إضافيّا، ناهيك بتقاليد دينيّة أخرى وافدة من العالَم الصينيّ/الهنديّ. هذه العناصر الأصيلة والدخيلة، التي بات جميعها مستوطناً في أوروبا المُعاصِرة، ما فتئت تَطرح نقاشاتٍ وجدالاتٍ وتساؤلاتٍ متنوّعة بشأن مفهوم السياسة، ومدلول الفعل السياسيّ، وتكريس التعدّدية في القارّة، بما يُذكي الحديث عن مقتضيات مراجعة العلاقة بين الدّيني والدنيوي التي سادت في عقودٍ سالفة، وإعادة تعريف الحداثة بدلالاتٍ مغايرة.

عندما تلجأ الأحزابُ المأزومة إلى الدّينولإحاطةٍ رصينة بما يجري من تبدُّلٍ في أوروبا، والغرب عامّة، حريّ أن يكون المنظور مُواكبا لا ثابتا ومُنفتحا لا مُنغلقا؛ لأنّ علاقة الدّين بالسياسة في أوروبا متفاوتة وليست مُتماثِلة، فالعلمانيّة علمانيّات، ومستويات الفصل والمزْج بين الدّين والسياسة متغايرة من مجتمعٍ إلى آخر، ويُمكن إلقاء نظرة خاطفة على الدساتير الأوروبيّة في مسألة الدّين، لتبيان الفوارق الجمّة بين المُجتمعات في حضور الدّين ودَوره، ومن ثَمّ ليست هناك معياريّة واحدة في العلاقة تنسحب على الجميع. فعلى سبيل الذكر، تتجذّر في السياسة الفرنسيّة علاقةٌ عصابيّة مع الدّين/الأديان في حين تسود في إيطاليا علاقة وفاقيّة. أمّا في بريطانيا وألمانيا وسائر الدول الإسكندنافيّة، فتَعرف العلاقةُ صبغةً تعايُشيّة. والإشكال أنّ الدولة الخصاميّة مع الدّين تتطلّع إلى تصدير أنموذجها، وتَعرض سياساتها على أساس أنّها المثال والترجمة للمُجتمع الحداثي المنشود، فقد يَعرف الناسُ في فرنسا – بالكاد - اسم رئيس الأساقفة في منطقة معيّنة، ولكنّ الأساقفة والكرادلة في إيطاليا أو إسبانيا لا يزالون شخصيّاتٍ عموميّة حاضرة بتأثيرها الجليّ في الساحة الاجتماعيّة. ناهيك بدولةٍ كفرنسا تحضر فيها صورة الدّين في الزمن الحالي في «قضيّة الإسلام»، التي ما إن تُسوّى من جانبٍ حتّى تطلّ من جانبٍ آخر، ولم يَنفع فيها مُستشارو الإسلام الوظيفيّون وخبراؤه في التهدئة أو التسوية.

في ظلّ تسرُّب الوهن الجليّ للديمقراطيّات الأوروبيّة بالعقود الأخيرة، وَجَدَ الدّينُ حضورا في حضن الساحة السياسيّة، وربّما توظيفا من أطرافٍ بهدف البحث عن سَنَدٍ ودَعْمٍ، وتبدو مُصالحات العلمانيّة الأوروبيّة مع الدّين براغماتيّة أحيانا، نظرا لزَخَمِ حضور المؤسّسات الدّينيّة في المُجتمع مثل مؤسّسات «الكاريتاس» و«فوكولاري» و«سانت إيجيديو» و«كومونيون وليبيراسيون». فأمام الإسهام القويّ للكنائس في الفضاءات الاجتماعيّة والتربويّة والتعليميّة، أضحى التوجُّهُ الدّينيّ بالِغَ الأثر وجليّا، وهو ما جَعَلَ الأحزابَ المأزومة والهشّة تبحث عن دعاماتٍ خارج قواعدها المألوفة، الشعبيّة والعمّاليّة، في أرضيّةٍ كنسيّة أكثر صلابة، فأوروبا المُعاصِرة المُرتبكة كأنّها تَجِدُ في تقريب الدّين الحائل دون تميّع أكثر واهتراء داهِم، إذ تبدو الروابط المتأسّسة على السياسيّ والاقتصاديّ عرضةً للاهتزاز والخلاف، وهو ما يدفع إلى العودة نحو بنية أكثر إيغالا للخروج من المأزق.

فما من شكٍّ أنّ الدّين يُمثِّل دعامةً كبرى، وإنْ طَمَسَ النّزوع العلماني ذلك الدَّور وأخفاه، وهو الأمر الذي جعلَ الدولةَ تفتّش عن مصادر قوّة في المؤسّسات الدّينيّة ومُمثّليها وناشطيها وقياداتها. ففي إيطاليا خلال الفترة الأخيرة، جرى تكليف رجل الدّين «العلمانيّ» أندريا ريكاردي، الزعيم التاريخي لمؤسّسة «سانت إيجيديو»، بمهامِّ مؤسّسة «دانتي أليغييري» المَعنيّة بترويج اللّغة والثقافة الإيطاليّة في العالَم، وكأنّ الدولة تستنجد بالسّند الدّيني في نَشْرِ مخزونها الحضاري بعد تقاعُس المثقّف العلماني عن المهمّة المنوطة بعهدته.

مع هذا التحوّل في أوروبا، تُبرِز مُقارَنةٌ بسيطة بين أمريكا وأوروبا، حيث إنّ حضورَ الدّين في السياسة بأوروبا لا يزال مُحتشما قياسا بالمستويات المتقدّمة التي يعيشها واقع «الدّين المدني» في أمريكا.

وقد تناولَ الأستاذ مختار بن بركة، المدرِّس في جامعة فالنسيان بفرنسا، الأمر بالتفصيل في العديد من المؤلَّفات، مُبيِّنا المستويات المُتفاوتة، لكنّ الأمر في أوروبا يبدو وكأنّه يَسير بخطى متسارعة، مقلّدا الأنموذج الأمريكي.

* أستاذ تونسي في جامعة روما – إيطاليا

* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية