فالدين والفلسفة منفصلان عن بعض لأن مصدرهما مختلف فالدين مصدره الوحي والفلسفة مصدرها العقل.
فكلمة دين مثلا في اللغة العربية يقابلها في اللغات الأوروبية كلمة religion، ولكن هذه الترجمة مع ذلك تظل قاصرة ولا تفي بمعنى الدين والديني في سياق اللغة العربية والثقافة الإسلامية على وجه الدقة.
وقد تطرق كتاب جوانب من الدراسات الحديثة لهذه المسألة بشيء من التوسع كما ناقشها كتاب آراء في العلمانية والدين والديمقراطية.
ويجدر بنا ألا ننسى هنا أن المفاهيم هي بشكل أو بآخر نتاج الفضاء الثقافي والوعاء اللغوي وأنماط الحياة التي انصهرت ضمنها، وقد سبق لابن تيمية أن انتبه إلى هذه الإشكالية منذ وقت مبكر، وذلك في معرض رده على ادعاء الغزالي أن علم المنطق اليوناني آلة كونية ومحايدة تعصم الذهن من الخطأ بحسب تعبيره، مبينًا مقابل ذلك أن المنطق اليوناني وعلى نحو ما قعد أصوله أرسطو في علم القياس ليس إلا استخراجًا غير واعٍ من نظام الثقافة وبنية اللغة اليونانيين، بما يجعل من التعسف إضفاء طابع الكونية والحيادية على هذا العلم، على نحو ما ادعى الغزالي.
أما كلمة Religion المستخدمة في جل اللغات الأوروبية تقريبًا فتعود إلى أصول رومانية وثنية، قبل أن تنتقل لاحقًا إلى الاستخدام المسيحي، ومنها إلى بقية اللغات القومية الأوروبية.
فقد كان الرومان يطلقون على ممارسة طقوسهم وشعائرهم الوثنية Religio. وحينما قام سان جيروم بترجمة الإنجيل إلى اللاتينية في أواخر القرن الرابع الميلادي، نقل مع هذه الترجمة كلمة Religion على نحو ما استقر عليه المعنى الأصلي في البيئة الرومانية التي تشيع بها.
وهكذا أصبح المصطلح يحيل على الصلوات والأدعية وما يرتبط بها من طقوس وشعائر مسيحية تمارس في الكنائس وتشرف عليها طبقة القساوسة والرهبان وذلك على منوال الطقوس والشعائر التي كانت تمارس في المعابد الوثنية الرومانية وتتصدرها طبقة الكهنة. وبهذا المعنى فإن مفهوم Religion وعلى نحو ما هو مستخدم في السياق المسيحي الكنسي، لم يخرج عن الخطوط العامة للتصور الوثني الروماني، بل يمكن أن يقال إنه مفهوم روماني مسيحي.
أما إذا انتقلنا إلى السياق العربي الإسلامي، فإن كلمة ديني تتجاوز الجانب الحصري للصلوات والأدعية الممارسة في المحل الديني لتطال مجالات تعبير وسلوك أوسع مدى.
وبالرغم من أن مفهوم الديني شديد الصلة بالغيب فإنه لا يتطابق ضرورة مع الروحاني والغيبي على نحو ما توحي بذلك التسمية الأجنبية، فالديني ضمن السياق القرآني وعلى نحو ما هو مستخدم في الخطاب الفقهي عمومًا يرتبط بمختلف مواقع الحياة، أي هو شرعة ومنهج بالتعريف القرآني. كما أن مفهوم العبادة في التصور الإسلامي العام لا ينحصر في أداء الشعائر الدينية ضمن حيز ديني مخصوص بقدر ما هو سلوك انبث في مختلف مواقع الحياة، ومن ثم لا تنفصل حركة العبادة في المسجد عن حقل الاقتصاد، وعالم السياسة والعلاقات العامة، ولعله لهذا السبب تحديدًا يجاور المسجد المدرسة والسوق في سياق التجربة التاريخية الإسلامية، وذلك بالنظر إلى ما ترسخ في وعي المسلمين منذ وقت مبكر، وعلى اختلاف أجيالهم من وجود صلة وثيقة بين الدين ومختلف شعاب الحياة المتنوعة.
ومن ثم لا يوجد مجال دنيوي خالص ومباين للحقل الديني وذلك بحكم انفتاح الحقيقة الدينية على الحياة الفسيحة في مختلف تعبيراتها ومستوياتها. وبما أن الديني لا يتحدد في موقع حصري محدد فمؤسسة المسجد الموصوفة في القرآن الكريم ببيت الله، ليس موضعًا لتجسد المقدس، أو أن ما سواها يدخل تحت طائلة المدنس، بل إن الأرض على امتداها الفسيح هي مسجد ممتد.
فالإسلام لا يقيم مقابلة أو مفاصلة بين الديني المتطابق مع الروحي، وبين الزمني والدنيوي والنسبي، لأن كل ما هو ديني في فلسفة الإسلام يحمل في كينونته الذاتية، وكل ما هو زمني ودنيوي لا ينفصل عن مرتكزاته الروحية.
ولعله لهذا السبب تحديدًا اقترن الإسلام في وعي المسيحية الوسيطة وما زال، بالدين المادي الذي يدفع أتباعه إلى الإقبال على متع الحياة الدنيا دون حد أو ضبط، بما يتناقض مع هوية الدين القائم على الورع والزهد. كما أن الكنيسة البابوية، وفي معرض صراعها مع آباء البروتستانت المنادين وقتها بالتخلي عما رأته زهدًا مصطنعًا فرضته البابوية بعيدًا عن تعاليم المسيح من مثل منع زواج القساوسة ورجال الدين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، لم تتردد في دمغ أتباع هذه النحلة الناشزة بالمحمديين.
إن ما يسمى بالعلماني في الأدبيات الغربية ليس إلا مكونًا أصيلًا في كينونة الديني ذاته في تصورات الإسلام، وكل ما هو زمني وتاريخي لا يكتسب وجوده الأصيل إلا من خلال أعماقه الروحية المتجاوزة. فالأمر هنا لا يتعلق بضرب من التأليف أو التركيب الجدلي بين الديني والعلماني بقدر ما يتعلق بانصهار اندماجي لا ينفك فيهما الواحد عن الآخر.
ولعل أهم من عبر عن هذه العلاقة الدكتور محمد إقبال الذي شدد على أن الديني لا يمكنه إثبات حضوره في هذا العالم إلا من خلال تجلياته المادية النسبية، كما أن كل ما هو دنيوي وزمني لا يكتسب قيمته إلا من خلال أعماقه الأخلاقية والروحية. ويضيف إقبال إن المادي والزمني ليس إلا درجة في مسار الروحي وحركيته الدائمة، وبهذا المعنى لا يوجد فصام أو مفاصلة بين المادي والمثالي، وبين الروحي والزمني، لأن كل ما هو مادي ودنيوي، هو في جوهره وكينونته روحي ورباني.
وإذا نحن نظرنا إلى الإسلام من زاوية التعريف الغربي الراجع بدوره إلى المختزنات المسيحية، فسنجد تلك المختزنات المسيحية دين علماني، ما دام كل ما تعده المسيحية دنيويًا وزمنيًا وعلمانيًا ينصهر في تركيبه الديني وبنيانه الداخلي نفسه.
هذا فضلًا عن روح الإسلام العامة القائمة على إثبات الحضور الفاعل في هذا العالم وبأدوات هذا العالم أيضًا عوضًا عن الركون إلى نزعة زهدية تحتقر كل ما هو مادي ودنيوي. ولعل هذا ما حدا ببعض المفكرين الغربيين أمثال فولتير ومارسيا ألياد ونيتشه إلى اعتبار الإسلام أنموذجًا مكثفًا للدين الطبيعي المناقض للزهدية المسيحية.
ولكن يتوجب التحفظ الشديد هنا في استعمال مصطلح علماني، وذلك بالنظر إلى الجذور المسيحية المختزنة في أصل الكلمة، فضلًا عما علق بها فيما بعد من تأثيرات مادية طبعتها بها قوى العلمنة التي سيطرت على المسرح الثقافي الغربي خلال القرنين الأخيرين على الأقل، إلى الحد الذي ما عاد من الممكن فصل دلالة العلماني عن الأبعاد المادية والإلحادية التي ألصقتها بها أطروحات العلمنة.
أما إذا نظرنا إلى الإسلام من الزاوية الأخرى كدين من كونه رسالة إنسانية ودينًا عالميًا لكل الناس من جهة ارتباطه الوثيق بفكرة الألوهية ومعنى الآخرة والحياة الغيبية، بما يجعل الأبعاد الطبيعية والدنيوية شديدة الارتباط بالأعماق الغيبية والروحية.
إن إضافة الإسلام الكبرى تتمثل في تغيير معنى الديني أصلًا من خلال وصله بالدنيوي، وتغيير معنى الدنيوي عبر وصله بالروحي والديني، بما يجعل الواحد منهما وثيق الصلة بالآخر. ولعل التقارب الاشتقاقي لكلمتي دين ودنيا في اللغة العربية، فضلًا عن اقترانهما الوثيق في سياق الخطاب القرآني يبرز هذا الوثاق الشديد بينهما.