كلما شاهدت أغنية للفنان القدير محمد عبده وهو يتألق بها، بغنائه العذب وألحانه الرقيقة والقوية معًا، تعود بي الذاكرة لتلك البداية التي بدأ بها مشواره الفني وذلك اليوم الذي التقيت به من عام 1381هـ وفي حي المظلوم في مدينة جدة.. يسبقه بخبر موهبته الشابة آنذاك السباح فهد عبد العال.. وهو يخبرني بإعجابه هو بصوت صغير يغني في الحارة بين أقرانه الشباب الذين في سنه في تلك السنوات.. تزداد الرغبة في سماعه أنا وصديقي وابن حارتي يوسف شاولي الذي كانت ولا تزال تربطنا ببعض صداقة عمر.. حيث كان الزميل يوسف شاولي آنذاك يدندن على «عود» للتسلية وليس للرغبة في أن يصبح فنانًا مطربًا.. حيث كنا سويًا نقوم بأداء التمثيل الإذاعي حيث له الفضل علي في إقناعي وإدخالي إلى الإذاعة حيث كان أحد الممثلين الذين بدأوا مع الممثلين البارزين آنذاك ومنهم حسن دردير ولطفي زيني وأمين قطان وخالد زارع وغيرهم ولكن حبه لمعرفة أصوات شابة دافعًا للتعرف عليهم لحبه آنذاك لأي صوت جميل يغني. وبعد سماعنا لذلك الخبر طلبنا من الأخ العزيز فهد عبد العال أن يأتي به إلينا لسماعه، وبعد أيام وإذا به يحضره إلينا لنسمعه، وإذا بنا نسمع مطربًا صغير السن عمره لم يتجاوز آنذاك السادسة عشرة، إن لم يكن أصغر. نحيل الجسم يغني تقليدًا للسيد عبدالرحمن مؤذن الذي كان آنذاك مشهورًا بالمجسات في ليالي الأعراس والزواجات، وبالطبع فقد يكون هذا الشاب الصغير يسمعه من خلال حفلات الزواج التي كانت تقام، حيث الكثير من أهل مدينة جدة يحرصون على إحضار المنشد وهذا اسمه قديمًا. وبعد سماعنا للفنان محمد عبده وجدناه يغني المجسات باتقان، وبعد أن فرغ من الغناء الذي أتقنه بالرغم من صغر سنه، طلبنا منه آنذاك أن يفكر في الموافقة أن نذهب به إلى الإذاعة لنقدمه في برنامج الأطفال ولكنه اعتذر ولم يعطنا فرصة للتفاهم معه، وذلك على أمل أن يأتي في وقت ثان. وأخذت الدهشة بنا ونحن نسمع فنانًا صغيرًا يغني بإحساس الفنان الكبير بالرغم من محدودية تفكيره بالمقارنة لسنه، وجلسنا ننتظر من وقت إلى آخر. وبعد فترة وإذا بالأخ العزيز يوسف شاولي يخبرني بأنه جاء إليه وأسمعه بعض أغنياته وهو - أي يوسف شاولي - يدندن على العود بقدر معرفته، وقد أشاد به الأستاذ الزميل الأخ يوسف شاولي وبموهبته ووعد أن يحضر مرة أخرى ويدعوني لسماعه.

ومرت الأيام والسنون ونحن لا نعرف عنه أي شيء، وكلما حاولنا معرفة أسباب غيابه لم نصل إلى حقيقة، وبعد فترة وإذا بنا نشاهده وهو يرتدي بنطلونًا وقميصًا ومعه الفنان القدير عمر كدرس يستعدان للسفر إلى بيروت، وبعد أن تفرست في وجهه جيدًا وعرفت من الفنان عمر كدرس أنه فنان مبتدئ وقدم له بعض ألحانه وساعده في تنمية موهبته. وبعد حديث طويل فهمت منه أنه صاحب موهبة متمكنة، وصادف في تلك الفترة أن حان زواج الفنان يوسف شاولي.. فقال لي اقنع عمر كدرس ومحمد عبده أن يحييا فرحي قبل سفرهما إلى بيروت. وأخبرت عمر كدرس بذلك وبعد إلحاح وافق للقيام بإحياء الحفل ومعه الفنان الصغير آنذاك محمد عبده. وبعد التنسيق مع فرقة موسيقية مناسبة تم الترتيب لها مع الفنان حسن دردير الذي كان زميلنا في الإذاعة. وبالفعل اختيرت فرقة موسيقية مناسبة أذكر منها الفنان زيني عبد الغفار عازف القانون ومهنا ساعاتي وأحمد عنبر على الكمانات وبعض الإيقاعيين، وكان عمر كدرس هو عازف العود خلف محمد عبده، وجاء يوم الفرح تلك الليلة التي أحياها محمد عبده حيث نصب السرادق وأقيم مسرح مرتفع عن الأرض الطبيعية بمقدار أكثر من هذا، فقد وضعنا كرسي المطرب وهو الفنان محمد عبده وعليه «مسند» لكي يصعد عليه لصغره وأمامه الجماهير الكبيرة التي حضرت لتعرف من هذا الفنان الذي سوف يغني.

وكانت ليلة لها ذكراها بين الناس، وقد غنى محمد عبده بعض الأغنيات المعدة من قبل عمر كدرس، وأذكر منها أغنيات نالت آنذاك الشهرة هي «يا مورد الخد» وهي من الألوان المعدة لها صفتها التراثية ولكنها لها عذوبتها وأثرها في الجمهور بجانب بعض المجسات التي غناها عمر كدرس ومحمد عبده.


الشيء الذي لفت نظري في ذلك الحفل.. كان في مؤخرة المسرح رجل يجلس يستمع إلى محمد عبده بإمعان وينصت إليه بعمق وكانت مني لفة ومتابعة ورغبة في أن أسأله.. ماذا بك ياعم محمد سعيد؟ هل هناك ما لفت نظرك في هذه المناسبة؟ وإذا بالرجل يتنهد ويقول (شوف يا ابني هذا الولد اللي بيغني، بيغني بإحساس الفنان الكبير، ويقول بعذوبة لا مثيل لها، وسوف يتألق ويشتهر هذا الولد، ويتألق ويصبح فنانًا له مكانته بين المطربين).. نعم هذا ما قاله وبهذه الدقة، وانتهى ذلك الحفل الذي امتد إلى ساعات متأخرة من الليل، وانفض السامر كما يقولون. وفي اليوم الثاني وإذا بعدد من أبناء حارتي يأتونني إلى المنزل يطلبون مني الذهاب معهم إلى محمد عبده بمنزله وذلك للاتفاق معه على إحياء ليلة فرح أحد أقاربهم، وبعد مفاوضات وإلحاح منهم وافقت على الذهاب معهم إلى منزل محمد عبده والذي كان يقع في تلك الفترة خلف مدينة حجاج البحر بجدة، وكان الوقت عصرًا تقريبًا فطرقنا الباب وإذا بي أشاهد في مجلس محمد عبده عمر كدرس ورحب بنا، وبعد فترة طلبت من الفنان محمد عبده باسم الأخوة بالطبع أن يحيي لهم حفل زفاف في حي المظلوم، ولكن بالقرب من سوق العلوي في الأسبوع المقبل، وأفهمته بأن هذا بمقابل مادي وطلبنا أن يخبرنا عن مقدار المكافأة التي يأخذها آنذاك لوحده ومقدار ما يأخذه العازفون المصاحبون له.. فقال محمد عبده «أنا آخذ ثلاثمائة ريال لوحدي، والعازفين الذين يعملون معي تقريبًا أربعة، ومكافأتهم خمسون ريالًا للعازف»، وإذا بالإخوان الذين يرغبون إحياء فرحهم يدفعون له العربون، أي جزء من المبلغ، وحددنا يوم المناسبة وكانت ليلة سبت.. وجاء الحفل بعد أن ذهبت إليه وأحضرته وكان بدون عمر كدرس في ذلك الحفل، ولكن بعدد من العازفين وهم ضابط الإيقاع بدر بطيش وعازفًا الكمان أحمد عنبر ومهنا ساعاتي، وكان يجيد العزف على العود إجادة متوسطة، وكانت ليلة فرح كبيرة صدح فيها محمد عبده بأحلى ما لديه من الأغنيات حتى وقت متأخر من الليل وقد ازداد شعبية لأنه ابن تلك الحارة وكان وفيًا معهم.

تعاون بعد ذلك مع عمر كدرس الذي قدم له العديد من الأغنيات الخفيفة المناسبة له، والتي أذكر منها «قالوها في الحارة الدنـيـا غـدارة، والكدلك الأزرق»، وبعض الأغنيات التي كانت قد سجلت على أسطوانات ، حيث نشط سوق الأسطوانات في تلك الفترة، ومن خلال ذلك النشاط كانت له لقاءات طيبة بعدد من المهتمين بالصحافة الفنية وفي مقدمتهم الزميل حمدان صدقة، وقد التقى بالفنان القدير طارق عبد الحكيم في أول أغنية هي «ياللي ما فكر في روحي»، ويقال إنه لم يتسلمها منه شخصيًا بل أرسلت له عبر أحد الفنانين المقربين من محمد عبده، والبعض يقول إن شركة الأسطوانات التي كانت قد تعاقدت مع محمد عبده هي التي حصلت عليها. أيضًا كان جواز سفره إلى الإذاعة، أو تذكرة دخوله إلى الإذاعة سماع الفنان الراحل مطلق الذيابي والذي قدمه له آنذاك عمر كدرس باعتباره كان رئيس فرقة الإذاعة، وقد أعجب بصوته المرحوم الذيابي وغنى له أغنية «سكبت دموعي» وهي كانت البداية ومنها بدأ محمد عبده يأخذ حظه من العناية والرعاية الفنية... ولم يبخل عليه الفنان المرحوم حمزة مغربي بالتشجيع فأعطاء ذلك اللحن الكلثومي «بتنكر» والذي اتهم فيه بأنه لحن كلثومي مسروق، وأثيرت حوله ضجة.

1992*

* صحافي سعودي «1934 - 2011»