أصبحت مُعالَجة المعلومات وعمليّات التعلُّم، منذ خمسينيّات القرن العشرين، موضوعاً للعديد من الدراسات في مجال العلوم المعرفيّة (Cognitive Sciences). وقد أَسهَمت الطفرةُ البحثيّة النوعيّة في مجال تصوير الدماغ، وخصوصاً ما يتعلَّق بالتصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ، في تعزيز مُدركاتنا العصبيّة الدقيقة حول الأداء الحركيّ أو اللّفظيّ للدماغ في مواقف التعلُّم، ما فَتَحَ الطريقَ أمام أعمالٍ أخرى تروم فَهماً أدقّ لمجموع المَسارات الذهنيّة التي تقتضيها شروط مُعالَجة المعلومات اللّسانيّة في الدماغ في أثناء مسارات التعليم والتعلُّم (Borst & Cassot, 2022). واعتباراً لذلك، سيَعرف العام 2007، ميلادَ الاسم الرسميّ للنوروتربية في أعقاب تقرير "منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية" (OCDE): "فهْم الدماغ، ولادة عِلم جديد للتعلُّم"؛ وهو ما أفضى إلى قيامِ روابط تكامُل جديدة بين النورولوجيا (عِلم الأعصاب) والتعليم والتعلُّم وفق اقتضاءاتٍ علميّة تفاعُليّة يستوعبها المجالُ الأرحب للعلوم المَعرفيّة.

يتبدّى للبحّاثة المُختصّين في مجال التربية وتعليميّة اللّغات (Fayol & Gaonach, 2007 ; Ehri, 2014 ; Fezjo, 2016; Collès, 2007; Griggs, Carol & Bange, 2002)، من خلال ما أفرزته نتائج أبحاثهم المتّصلة بتعزيز إدراكات اللّغة تعليماً وتعلُّماً، خلال السنوات الأخيرة، أنّ بلْورة المشروعات البحثيّة حول التربية والتعلُّم يجب أن تعتمد رؤيةً معرفيّة (Cognitive) تستمدّ مشروعيّتها من النتائج المُبهرة التي تمدّنا بها اللّسانيّات، والتربية، والسيكولوجيا، والتعليميّة، والنورولوجيا... في آخر نماذجها العلميّة المُتفاعلة والمُتكاملة مع ما أنتجته من ثوابت نظريّة، وخطوات إجرائيّة إمبريقيّة تُعزِّز جوهر الاشتغال بيداغوجيّاً وديداكتيكيّاً على تعليم اللّغات وتعلُّمِها وفقَ مظاهر البُعدَيْن: القرائي/ النطقي، والكتابي/ الخطّي.

أدَّت هذه المعرفة الجديدة التي أفرزتها مظاهر مُختلفة من إمكانيّات التقاطُع المقرَّرة بين النورولوجيا (علم الأعصاب) والتربية، إلى ظهور مجال "النوروتربية" (Neuroeducation) (Ansari, Smedt & Grabner, 2012) الذي يهتمّ بدراسة بعض القضايا التعليميّة على مستوى التحليل الذي كان من الصعب الوصول إليه في السابق: ألا وهو المستوى العصبي (Masson, 2012). إلّا أنّ هذا المجال لا يسعى إلى تحديد الآليّات المرتبطة بالتعلُّم الأكاديمي والتدريس فحسب، بل يسعى أيضاً إلى البحث عن الطرائق التي تفضي بها معرفتُنا بهذه الآليّات، إلى توفير أدلّةٍ علميّة جديدة لتسهيل تعليم المتعلّمين بشكلٍ أفضل (Masson, 2014a).


يتمثّل التحدّي الأهمّ للنوروتربية، في الوقت الحالي، في تعميق الحوار العلمي بين المُختصّين في مجالات التربية، واللّسانيّات، وعلوم الأعصاب، وتعليميّة اللّغات... وإنشاء لغة مُشترَكة تنهل من مَعين علوم الدماغ، ويتّسع مدى إدراك مسالك التفاعُل والتكامُل العلمي بينها وبين التربية على نطاقٍ أوسع في الدوائر التعليميّة. ومن هنا تأتي الحاجة الماسّة إلى مُختصّين يُتقنون التواصُل المُشترَك عبر التخصُّصات، ويُدركون عُمق خطوط التماس المقرَّرة بين كلّ هذه العلوم لتعزيز فَهمنا لها وإدراك شروط الاستفادة منها في تعزيز استراتيجيّات التعليم والتعلُّم في كلّ مظاهره، وبكلّ مضامينه.

وعلى الرّغم من أنّ صنّاع القرار في مجال التربية، وواضعي الهندسات البيداغوجيّة يدعون إلى مُمارساتٍ تربويّة سليمة عِلميّاً، وتستند إلى الحقائق العلميّة التي يقدّمها عِلمُ الأعصاب، بخصوص المُعالَجة الذهنيّة للمعلومات اللّسانيّة في أثناء الفعل التعليمي التعلُّمي، إلّا أنّ هناك إجماعاً ضئيلاً على ضرورة الانخراط النوعي والمكثَّف في مسلك اعتماد الأُسس المفاهيميّة والمنهجيّة لكلّ الجهود العلميّة التي تُفرزها المُمارسات البحثيّة في هذا المجال.

التعليم والتعلُّم وتكامُل العلوم معرفيّاً

منذ فترةٍ طويلة اعتُبر التعلُّم ظاهرةً معرفيّة بامتياز؛ وبما أنّه يقع في قلب "الذكاء" موزَّعاً بين مسلكيْن من البحث: الأوّل طبيعي والثاني اصطناعي، فقد وُجبت دراسته ضمن جوانبه "الوظيفيّة": العصبيّة والبيولوجيّة، من دون الاقتصار حصراً على المظهر السلوكي الخالص. تُظْهِرُ نتائج الأبحاث الإمبريقيّة المؤسَّسة على علوم الدماغ تحسُّناً كبيراً في معايير التعلُّم؛ لكن ينبغي ألّا يحجب هذا الإمعان في فهْم المُنشئ العصبيّ للتعلُّم كلَّ الرؤى الأخرى اللّازمة للفعل التربوي، كما لا ينبغي أن يَدفع بالمُختصّين في عِلم النَّفس العصبي، وتقويم النطق، واضْطرابات التعلُّم، أو خبراء الجهاز العصبي... إلى الانشغال بقضايا العمليّة التعليميّة التعلُّميّة بعيداً من خبراء اللّسانيّات، والديداكتيك، وعِلم النَّفس...

إنّ لاقتضاءاتِ الفَهْم المعرفي، المتطوِّرة والمُتجدِّدة باستمرار، لطريقة اشتغال اللّغة في الدماغ واشتغال الدماغ باللّغة، عُمقاً علميّاً عصبيّاً مهمّاً؛ هي التي مكَّنت من توفير مسالك بحثيّة جديدة ودقيقة لفهْم طبيعة مُعالجة المَعارف (اللّسانيّة وغيرها) ذهنيّاً، إلى حدّ بلوغ مقاصد الربط الدقيق بين مظاهر التعلُّم المعرفي ومقتضيات الاشتغال على نورونات (الخلايا العصبيّة) القراءة والكتابة (Stanislas, D. 2007) في التعلُّمات. وبانتقالنا، في مباشرةِ الفهْمِ المعرفيّ لعمليّات التعلُّم المُختلفة، يتحوّل اهتمامُنا داخل مجال تعليميّة اللّغات إلى العُمقِ الذهني القابل للاستقصاء، والدراسة التجريبيّة، ويُصبح من المُمكن الاشتغال على تطوير القدرات المعرفيّة للمُتعلِّم، والعمل، بعِلميّةٍ أكبر، على نقْل غايات التعلُّم من شروط المتعة والتحصيل إلى موجِّهات أساسيّة في امتلاك مفاتيح انخراط المتعلّم بالوعي والإمكان في مجاري بناء التعلُّمات وتعزيزها وتقييمها أيضاً.

تطوَّرت معرفتنا بكيفيّة عمل الدماغ بمعدّلٍ هائل، وبوتيرةٍ متسارعة، منذ تسعينيّات القرن الماضي، بفضل وصول التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي قبل 25 عاماً (Ogawa, Lee, Kay & Tank, 1990) - وهي تقنيّة تُتيح الحصول بسرعة كبيرة ودقّة متناهية على صور مفصَّلة لبنية الدماغ ونشاطاته المُختلفة؛ الأمر الذي أدّى إلى تمكين الباحثين من قدرة دقيقة على تحديد إواليّات الدماغ المرتبطة بالمهارات الأكاديميّة المُختلفة مثل القراءة والحساب (Dehaene, 2007, 2011). لكنّ الأمر المُثير للاهتمام، في سياق هذا المسار العِلمي الجديد، هو عدم اكتفاء الكثير من الباحثين بفهْم كيفيّة عمل الدماغ فقط، بل الانخراط في مشروعاتٍ بحثيّة متطوّرة تتغيّا فهْم كيفيّة تطوُّر هذا الأداء، وكيف يُمكن للتعلُّم أن يؤثِّر على هذا التطوُّر (Ansari, 2008 ; Dehaene, Cohen, Morais & Kolinsky, 2015 ; Houdé & Borst, 2021;).

توحِّد النوروتربية مسالك الاشتغال بالتعليم وعِلم الأعصاب، وتَخلق مساراً من البحث تتقاطع داخله تخصّصاتٌ علميّة متنوّعة: اللّسانيّات، والديداكتيك، وعِلم النَّفس... ويكون من أولويّاته دراسة المسارات الذهنيّة التي يتعلّم بها الدماغ، وإواليّات تذكّره لسيرورات تعلُّمه استناداً إلى مكوّناته من الفصوص، والأحياز، والخلايا العصبيّة... (نظام المناطق العصبيّة، والفصوص، والمَسارات التي تكمن وراء قدراتنا على النطق، والسمع، وفهْم اللّغة... على سبيل المثال). ولذلك يبدو أنّ الوقت مناسبٌ للنظر في كيفيّة تطبيق فَهمنا المتزايد لوظائف الدماغ وطرائق اشتغاله على استكشاف الأساليب المُلائمة لبناء استراتيجيّاتٍ تعلُّميّة للّغة العربيّة تتوافق وطريقة اشتغاله، وتأخذ بعَيْن الاعتبار الخصوصيّات البرامتريّة للّغة العربيّة.

النوروتربية وتعليميّة اللّغات

أظهر (Dehaene, 2007) أنّ الكتابةَ اختراعٌ بشريّ غير فطريّ، وتتطلَّب مَسالكُ امتلاكِ ثوابتها عمليّاتٍ تعليميّة صعبة للغاية؛ حيث يتميّز عددٌ مُهمّ من خلايانا العصبيّة بكونه "خلايا عصبيّة للقراءة". لقد حملت أبحاثه الدقيقة في المجال تأثيرات تطبيقيّة فوريّة على أنماط تعليم الكتابة والقراءة؛ حيث تُظهر - بشكلٍ جليّ - عدم التوافُق المطلق بين "الطريقة الشموليّة" في تعليم القراءة والكتابة وخصوصيّات اشتغال الدماغ من وجهة نظر عِلم فيسيولوجيا الدماغ. يكشف (Masson,2020) و (Masson & Borst, 2017) أنّ المتعلّم في أثناء التعلُّم لا يمحو معرفته السابقة أو يُعيد هيكلتها، كما لا يُدرجها في نظريّةٍ جديدة، ولكنّه يسعى إلى تثبيتها لتحقيق التغيير المفاهيمي.

على العكس من ذلك، تُوافِق الطريقة المقطعيّة في تعليم القراءة والكتابة وتعلُّمهما ثوابت اشتغال الدماغ، إذ تتأسَّس على ثوابت التهْجِئة وإعادة البناء/ التأليف المَقطعي وفق اقتضاءاتِ تجريدٍ علائقيّة تتقرَّر بشكلٍ تكامُليّ بين الصوت والحَرف، أي بين التحقيق النُّطقي للصوت اللّغوي، والتحقيق الخطّي له. إنّها إواليّة دقيقة لانتظام مَهمَّتَيْن متوازيتَيْن:

أ- مُعالجة الأشكال الغرافيّة/ الخطيّة للوحدات الصوتيّة اللّغويّة؛

ب- مباشرة صَوْغ العمليّة النطقيّة المُوافِقة لها.

ولأنّ اللّغة العربيّة لغة ألفبائيّة، فقد لا تَستقيم للطفل هذه الإجراءات في المرحلة الأولى من مباشرة فعل القراءة دون تعرُّف إلى القطع الصوتيّة (صوامت، ومصوّتات، وأشباه صوامت) والمقاطع الصوتيّة (تأليف بين هذه القطع الصوتيّة)، واستعمالها في مَسارات الانتقال من المنطوق إلى المكتوب من الوحدات اللّغويّة أو العكس؛ وهو ما يعني ترشيح مُعالجات متنوّعة في مَسلكِ تثبيت الفعلَيْن: القرائي والكتابي لتعزيز هذه الكفاية المهمّة من كفايات امتلاك النّسق اللّغوي" (بوعناني، 2019، 28).

نحن بصدد طرح الكثير من الأسئلة العلميّة المتعلّقة بأنماط اشتغال دماغنا بمُعالجة المعلومات اللّسانيّة وغير اللّسانيّة في أثناء إنجاز الكثير من المهامّ التعليميّة التعلُّميّة، وتبدو النوروتربية عِلماً واعداً جدّاً بالنسبة إلينا، وسيكون قادراً على الإجابة عن أسئلتنا الموغلة في الدقّة والضبط قريباً. ينبغي أن نستنير بدور العوامل المتعدّدة التي يُمكن أن تؤثِّر على جودة التعلُّم ونحن نستدعي الأنواعَ المُختلفة من الذاكرة، والتحفيز، والانتباه، والذكاء، والسياق العاطفي... والقائمة ليست شاملة.

تُعيدنا أهميّة العوامل النفسيّة والذاتيّة المتّصلة بأنماط اشتغال شقَّيْ الدماغ: الأيمن والأيسر إلى عُمق الاهتمام بالعمليّات اللّاواعية التي تُدير أفكارنا وتعلُّماتنا. إنّ فَهْم آليّاتها الدقيقة، بتفاعُلاتها المنتظمة بَرْمَجَةً، والمُتكاملة وظيفةً من شأنه أن يُساعدنا على استخلاص أفضل المنهجيّات التي يُمكن تنشيطها توافُقاً مع عمل الدماغ، أو على العكس من ذلك، تحييدها عندما تكون ضارّة؛ ولك من خلال الإجابة عن أسئلة من نَوع:

• كيف يُمكننا تحفيز براغماتيّة الشقّ الأيسر من الدماغ: الموسومة بخصوصيّة الدقّة المنطقيّة، والحسابيّة، مع القدرة على تقييم حساسيّة الشقّ الأيمن منه وموجّهاته الذاتيّة والعاطفيّة؟

• كيف يُمكننا تحسين الوظائف الإيجابيّة في التعليم والتعلُّم، وإزالة العوائق والموانع فيهما أيضاً؟

• كيف يُمكن أن نَجعل وظائف الدماغ في كلّ مظاهر معالجته للمعلومات وظائف سليمة وبأقلّ تكلفة معرفيّة؟

سيكون مُهمّاً، في مشروع اعتمادنا ثوابت "النوروتربية" لتطوير استراتيجيّات التعليم الفعّالة ونجاعتها، التفكير أيضاً في تحسين فعاليّة التعلُّم بفضل الارتجاع البيولوجي الذي يُقلِّل التوتُّر باستخدام تقنيّات الاسترخاء المُختلفة، وتعزيز حافزيّة المتعلِّم بموجب فعلٍ تعليميّ تنخرط محدّدات سياقه – بالضرورة - في توفير اللّازم والمُمكن لإنجاح العمليّة التعليميّة التعلُّميّة: فضاءً، وعِدّةً، وإمكانيّاتٍ لوجستيّة.

متطلّبات فَهْم الدّماغ لتطوير استراتيجيّات التعلُّم

هل هناك صلة وطيدة بين متطلّبات الفَهم الصحيح لطريقة اشتغال الدماغ، وتطوير الاستراتيجيّات الفعّالة والنّاجعة لسيرورات التعليم والتعلُّم؟

بقدر ما نملك – حاليّا ً- الكثير من أسباب الإجابة بالإثبات عن هذا السؤال، بموجب استخلاص حقائق علميّة دقيقة توفّرها الأبحاث التجريبيّة في المجال (بوعناني، 2019)؛ (بوعناني، وفيزجو، وربيع، 2018)، بقدر ما تنتشر بعض المفاهيم الخاطئة المتّصلة بمَنزعٍ تأويليٍّ مغلوط لبعض النتائج التجريبيّة، أو تحريفها، أو الإفراط في تعميمها، أو تبسيط تفسيراتها حدّ تغذية حدْسنا بمخاوف وآمالٍ تُعزِّزها في بعض أوساط المُهتمّين وتُرسِّخها بسهولة لتصبح – أحياناً - أساطير نورولوجيّة.

ربّما نعرف ما يعنيه امتلاك "الاستراتيجيّة الصحيحة" للتعلُّم، ولكن في كثير من الأحيان يكون حدْسُنا حول ما يشكِّل استراتيجيّةً جيّدة (أو حتّى استراتيجيّة صحيحة بالنسبة إلينا) غير دقيق وغير صحيح أحياناً. ومن هنا تتبدّى أهميّة التوجُّه إلى العلوم التي تدرس التعلُّم والذاكرة بشكلٍ دقيق وتوفِّر شروطاً علميّة دقيقة لتوفير عناصر الإجابة عن أسئلة دقيقة من نَوع:

• ما هي أفضل التقنيّات للتعلُّم؟

• كيف يُمكننا أن نساعد أنفسَنا على تعلُّم محتوىً تعليميٍّ مخصوص، وترسيخ التعلُّمات، والاحتفاظ بمفهومٍ جديد أو مجموعة من الحقائق والإجراءات التي ستكون مُفيدة لنا في المستقبل؟

• كيف يُمكننا إعادة تعبئة المعرفة وإيجاد آثارٍ لها في ذاكرتنا لحلّ مشكلة جديدة؟

• هل ينبغي النَّظر إلى التعلُّم على أنّه شيء سهل، أو نشاط يأتي إلينا من دون جهد، أم ينبغي أن يكون هناك مستوىً مرغوب فيه من الصعوبة يَجِب مُتابعته لجَعْلِ التعلُّم أكثر قيمة، وجدوى، واستدامة؟

• لكن قَبل كلّ ذلك وبعده: كيف نُحفِّز المُعلِّم والمتعلِّم على حدٍّ سواء؟ وكيف نَجعل الانتباه مدخلاً أساسيّاً لجذْبِ الاهتمام وتوجهيه؟ وجعْل التركيز آليّةَ تصفيةٍ تسمح لنا باختيار المعلومات وتعديل المُعالجة في أثناء التعلُّمات؟

تنبع صلاحيّات التحدّي المقرَّر في توفير عناصر الإجابة عن كلّ هذه الأسئلة، من الحاجة إلى تحقيق التوازُن الضروري بين ثلاثة متطلّبات أساسيّة:

• توفير الحريّة الأكاديميّة للسياق التعليمي برمّته؛

• تثبيت معايير البحث الواضحة وفق شروطٍ تجريبيّة وإمبريقيّة دقيقة تُراعي خصوصيّات المُتعلِّم، وسياقه التعلُّمي، والشروط البرامتريّة للّغة/ اللّغات التي يتعلَّم بها؛

• وضْع مبادئ تَسمح بالتعميم والتقييم المُتعمّق للنتائج المُستخلَصة من هذه الأبحاث في مجال التعليم والتعلُّم.

يكمن أحد أهمّ الاكتشافات الأساسيّة للنورولوجيا الحديثة في كون بنية الدماغ غير ثابتة بمرور الوقت، ولا تُحدِّدها الجينات فقط؛ إنّها تتغيّر باستمرار مع تعلُّم الشخص وتفاعُلِه مع بيئته. يتّضح ذلك جليّاً من خلال استخدام تقنيّة التصوير بالرنين المغناطيسي لتتبُّع نشاط تعلُّم القراءة داخل الدماغ؛ حيث يتمركز النشاط في البداية بشكل رئيس في قشرة الفصّ الجبهي، وهي منطقة في الجزء الأمامي من الدماغ تُستخدم للانتباه والتركيز والذاكرة قصيرة المدى. وعندما تُصبح المُهمّة أسهل ويتمّ إنشاء آليّاتها ذهنيّاً، يتحرّك النشاط نحو الجزء العلوي والخَلفي من الدماغ، في المناطق المخصَّصة لهذا التعلُّم. وهو ما يتيح تحرير قشرة الفصّ الجبهي، ومن ثمّة تقليل حالة التكلفة المعرفيّة الزائدة (Foisy & Masson, 2022). ويَحدث العكس عندما يتعلّق الأمر بتصحيح الأخطاء التي طال أَمَدُها فترسَّخت في ذِهن المتعلّمين؛ إذ يكون من الصعب القضاء على المفاهيم الخاطئة القائمة على شبكةٍ عصبيّةٍ راسِخة.

تُظهِر مقاطعُ الفيديو المُستخلَصة من تصوير الجزء الداخلي من الدّماغ باعتماد تقنيّة التصوير السريع (وهي عمليّة تَسمح بتسريع وقت الإجراء) قدرة الخلايا العصبيّة على أن تشكِّل في ما بينها اتّصالاتٍ جديدة بسرعةٍ هائلة بموجب عمليّاتٍ بيوكيميائيّة دقيقة. وفقاً لذلك، يُقارِن (Masson, 2022) الدّماغ بالغابة، ويرى أنّكَ عندما تسلك دائماً المسارَ نفسه فيها، فإنّكَ تَخلق بفعلكَ هذا مَساراً مُحدَّداً بشكلٍ جيّد داخلها. والشيء نفسه بالنسبة إلى الدماغ. فالخلايا العصبيّة التي تنشط معاً سوف تتّصل في ما بينها لتُشكِّل شبكة. تُسمّى الظاهرة التي يتمكّن الدماغ من خلالها تعديل اتّصالاته العصبيّة بمطواعيّة الدماغ أو مطواعيّة الخلايا العصبيّة.

وعلى الرّغم من أنّ التعلُّم ليس ظاهرةً ذات مَسلكٍ واحد، واتّجاهٍ وحيد، ومتغيّراتٍ موحّدة، إلّا أنّ الثابت عصبيّاً هو ضرورة ألّا يتوقّف دماغُنا عن استخدام اتّصالاته العصبيّة، حتّى لا تضعف الشبكات فيه أو تختفي أصلاً؛ فالنسيان ظاهرة طبيعيّة تماماً. وهذا من شأنه أن يُفسِّر السبب في أنّ الفجوة في القراءة بين المُتعلّمين في بداية السنة الثانية مُقارَنةً بنهاية السنة الأولى مرتبطٌ بدرجات اتّصالهم بالفعل القرائي. فالأطفال الذين حافظوا على اتّصالهم بالكُتب خلال فصل الصيف، ظلَّت اتّصالاتهم العصبيّة المُرتبطة بالقراءة نشطة.

خلاصات توجيهيّة

لا يُمكن اعتبار النوروتربية، والنوروتعليميّة مجرّد كاتالوغات (فهارس وصْفات جاهزة)، بل هي مزيجُ علومٍ يوفِّر بياناتٍ علميّة مُثبتة ومُعتمدة بحسب ضوابط علميّة تجريبيّة صارمة؛ وحيث يَجد فيه المُنشغلون بقضايا التعليم والتعلُّم غذاءً للفِكر وطُرقاً قيّمة لتحسين مُمارساتهم مع الحفاظ على إتقان فنّهم وحريّتهم الأكاديميّة.

لقد بدا جليّاً، من خلال ما أفرزته نتائج الأبحاث في مجالات التخصّصَيْن، أنّ إعادة صَوْغ الرؤية المعرفيّة للتعلُّمات صاحبتها تغييراتٌ في جوهر المسالك النظريّة والإجرائيّة التي تشتغل بيداغوجيّاً، وديداكتيكيّاً، وعصبيّاً على التعليم والتعلُّم. وهذا من شأنه أن يُساعدنا على معرفة كيفيّة عمل الدماغ، وطبيعة المعلومات المُعالَجة في داخله، والعمليّات المعرفيّة والميتامعرفيّة التي تقتضيها مَسارات التعلُّم المُختلفة (بوعناني، 2020). كما سيُساعد الباحثين المُختصّين في تعليميّة اللّغة العربيّة على تعزيز محدّدات الفَهْم المعرفي لمباشرة تعليم اللّغة العربيّة وتعلُّمها في مستوياتٍ وسياقاتٍ مختلفة، ويُمكِّنهم من مساحةِ تفكيرٍ شاسعة لإدراك مسالك تطوير الفعل التعليمي التعلُّمي في سياقنا العربي اشتغالاً على اللّغة العربيّة بكلّ مكوّناتها اللّسانيّة. كما يوفِّر فرصةً لمُناقشة عديد القضايا المُثارة فيه: تعزيزاً، أو مُساءلَةً، أو إغناءً... وتلك هي خصوصيّة البحث العِلمي في هذا المجال.

*أستاذ اللّسانيّات العربيّة واللّسانيّات المعرفيّة وديداكتيك اللّغات - جامعة سيدي محمّد بن عبد الله المغرب

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية