إن وضع الأيديولوجيات كان على الدوام من اختصاص المثقفين. وهذا من حقهم عندما تكون هناك حاجة حقيقية تاريخية إلى أيديولوجيات جديدة. بيد أن المثقفين هم أیضا مهددون بالتشويه المهني، ومن أبرز مظاهر هذا التشويه الرغبة في عرض العضلات الثقافية حتى بعد أن يكون أوان الاستعراضات قد فات. وإذا ما فهمنا أن المثقف بسيمائه النفسية البورجوازية الصغيرة يتصور دوما تقريبا بأن في أعماقه عملاقا ماردا يريد أن يتحرر ويبرز و يخرج من قمقمه، أدركنا لماذا يحلو للكثير من المثقفين أن يتخيلوا أنهم يعيشون - وشعوبهم - في فراغ أيديولوجي خانق وأن القدر قد وقع اختياره عليهم ليخرجوا شعوبهم من السيديمية الأيديولوجية وليقدموا إليها على طبق من ذهب تلك الأيديولوجيا الخاصة الخصوصية التي لم يسبقهم اليها سابق والتي لا يشوبها درن من اقتباس أو استيراد.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الظروف الموضوعية للثورة العربية بحكم من الطبيعية البورجوازية الصغيرة لقيادتها قد ساعدت هذا النفر من المثقفين على ممارسة عملقاته الأيديولوجية بلا عقاب. والثورة العربية سارت حتى الآن في طريق النضال العملي المباشر دونما دليل نظري محدد ودونما إستراتيجية طويلة النفس بعيدة المدى، ولم يكن لها من عاصم على الصعيد النظري غير منهج التجربة والخطأ الذي فرضته المعارك الملحة المتلاحقة التي كان على الثورة العربية أن تخوضها على جميع الجبهات من غير أن يتاح لها استرداد أنفاسها ومن دون أن تمكنها ظروفها الذاتية والموضوعية معا من تنظير التجربة المتراكمة، ذلك التنظير الذي نقل الممارسة بدونه عقوبة، متقلقلة، مبهورة الأنفاس، أسيرة اللحظة الراهنة، كثيرة التبذير، عاجزة عن التبصر والتوقع، مستغنية عن الإستراتيجية بالتكتيك، ومن التكنيك بالتكتكة.
1970*
* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016»