حين نشرتُ «نازلة دار الأكابر»، روايتي الأولى التي أَدركت قَبل سنوات القائمة القصيرة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة (بوكر)، كَتَبَ بعضُ الصحف على سبيل التنويه أنّ حفيدةً جديدةً لـ«شهرزاد» ظهرتْ في تونس. كان يُفترض بي أن أجد في إلحاقي بنسل شهرزاد، أشهر حكّاءة عربيّة يعرفها العالَم الشرقيّ والغربيّ، سخاءً نقديًّا وشهادةً قيِّمة داعية للبهجة والفَخر، غير أنّي ما وجدتُ بنفسي وأنا أقرأ المقارنة الضمنيّة بيني وبين جارية شهريار، غير الامتعاض.

كلّا، لستُ من نَسل شهرزاد. لا أُداهِن الذكوريّة، ولا أتوسَّل بالحيَل، ولا أتّخذ الكلمة مرقاةً إلى جنّة الحريم. لم أنسج حكاياتي لإنقاذ حياتي، ولا سلكتُ مَسلك السرد لأدفع عن نفسي الموت. أنا، على نقيض شهرزاد، أُغادِر بالسرد منطقة الأمان لألِج بمحض إرادتي دائرة الخطر. الحكي لا يَستنقذني من المجهول الذي يُخبّئه الصباح بل يرتقي بي درجةً إضافيّةً على سلّم المشقّة والمُكابَدة اليوميّة. كم كانت حياتي ستكون أيسر وأهدأ وأبسط لو لم يعشِّش في داخل جمجمتي نملُ السرد.

لستُ أذكر متى بدأتُ أشعر بذلك الدبيب داخل رأسي. شيء كالقلق المُقيم لا ألم فيه ولا لذّة. فقط كَدر طفيف لا أعرف سببه ولا أُحسن وصفه للناس. شعور غامض بأنّ لي التزامًا معلَّقًا لا أنجح في استيفائه أو دَينًا قديمًا لا أتمكّن من قضائه. ضيقٌ مُبهَم يصحبني على مَدار يومي كأنّ برأسي كهفًا مظلمًا لا أدري متى يطلع لي منه الوحشُ المتواري فيه.


بيد أنّي ظللتُ أُكابِر، وأنفض رأسي لأُعيد ترتيب الأولويّات فيه، وأسدّ مخارج الكهوف عسى أن يسكت الدبيب. لا وقت لديّ كي أتمدّد مثل شهرزاد على أسرّة الملوك لأصلَ لذّة الراحة والرّفاه بمتعة الحكي والرواية. أجندتي الحافلة بالمواعيد العاجلة لا تسمح لي بأن أحيي اللّيل أسرد القصص فلا يحجزني إلّا طلوع الصباح عن كلام شهرزاد المُباح. أنا، ككلّ النساء في بلدي، امرأة مشغولة.. ومشغولة أكثر ممّا ينبغي. ألف ليلة وليلة... هل تكفي؟

هل تعرفون أمّ أربعة وأربعين؟ تلك الدويبة النشيطة التي يُسمّيها الفرنسيّون صاحبة الألف رجل، ويُسمّيها الإنكليز صاحبة المائة؟ حدسي يقول إنّ تلك الخنفساء جدّة كلّ النساء.

دَعْكَ ممّا تقوله نظريّات النشوء والارتقاء، وانظر في الوقائع بعَيْنٍ غير تقليديّة. ألستَ معي في أنّ ذلك الجُعل المدرّع الأسود الذي يمضي يومه في دفْعِ كرة الروث، ولا يصنع شيئًا غير ذلك، إنّما يصلح فعلًا لأن يكون الجدّ الأكبر لأبينا آدم؟ بلى، فتعدُّد المهامّ ميزة نسائيّة خالصة. خاصيّةٌ فريدة في عالَم الأحياء عاقَبتْنا بها الطبيعةُ لنَظلَّ راكضاتٍ بألفِ رِجْلٍ في مُختلف الاتّجاهات. قطارات هشّة، لكنْ مُثابِرة، تنهض بأعباءٍ لا طاقة بها لبشرٍ ذي ساعدَيْن اثنَيْن، ما لم تكُن قد تركّبت في جسده منذ ملايين السنين آلافُ الأطراف الجارية في تناسُق. هل ظلَّت الذاكرة البيولوجيّة للنساء مُحتفظةً بوظائف آلاف الأطراف على الرّغم من تخفُّف أجسادهنّ منها بحتميّةِ التطوّر؟ أَلم يقلْ عُلماء الطيور عن جناحَيْ النعامة أنّهما من أَثَرِ طيرانها في زمنٍ سابق؟ بلى، قد يثبتُ العضو، على الرّغم من زوال وظيفتِه، فما المانع إذن أن تَثبتَ الوظائف على الرّغم من زوال أعضائها؟

يُعجبني هذا التفسير. يبدو لي لائقًا بخيالِ امرأةٍ عشَّش في رأسها نملُ السرد. أدافع عنه في المجالس الأدبيّة التي تُناقِش الأدبَ العبثيّ. أتكلّم ببطء لشَدّ السامعين، أسعل أحيانًا لإذكاء التشويق، ثمّ أقول بنبرة واثقة: «فرانز كافكا كاتب عبقريّ.. لقد صوّر في «المسخ» رجوعَ آدم إلى أصله الأوّل قَبل أن يتحوّلَ إلى الصورة التي نعرفه عليها». يبتسم السامعون إذا التقطوا الدرجة الثانية في الخطاب، فاستغلُّ الفرصةَ لأستطردَ في حديثي الأزليّ عن أمّ أربع وأربعين التي فقدتْ بجبريّة التطوّر أرجلَها الكثيرة، لكنّها لم تَفقد ذاكرة الركض المحموم في كلّ اتّجاه.

كلّا، لستُ من نَسل شهرزاد ابنة وزير البلاط، شهرزاد المرفّهة المنعّمة النؤوم الكسول. أنا دويبة عمول لا تهدأ. أُخطئ كلّ يومٍ إذا حاولتُ أن أستظهر من ذاكرتي جدولَ أعمالي. محاضرات الجامعة، مُناقشات رسائل الطلّاب، مُشاركات في مؤتمرات وطنيّة ودوليّة، مقالات تنتظر الإتمام لتُنشَر في مجلّات علميّة، بحثٌ وصلَ إلى طريقٍ مسدود وفي حاجةٍ إلى إعادة نَظر، كتابٌ على قائمة القراءات الضروريّة.. أضف إلى ذلك مواعيد نقْلِ الأبناء بالسيّارة إلى مدارسهم ومعاهدهم، إعداد «الكيك» لإفطار الغد، تقشير السمكات للغداء، تقطيع السلطة للعشاء، اصطحاب ابنتي الصغرى إلى طبيب الأسنان وأخذ كلبتي المُسنّة إلى الطبيبة البيطريّة. بقي تدوير الغسّالة ونشْر الثياب والكيّ، وجلي المواعين وتنظيف المطبخ وترتيب البيت وجمْع الأوراق المتساقطة في الحديقة.. وأشياء أخرى سأتذكّر في الغد أنّي نسيتها..

أجل، أنا امرأة لا تسكن البتّة، كأنّ تحتها مليون رِجْلٍ لا أربعًا وأربعين. فكيف خطر لي أن أزيد على ازدحام يومي محنة الكتابة؟ سباق الألف سطر حواجز

كثيرًا ما يُطرح عليّ في اللّقاءات الأدبيّة سؤالٌ رومانسيّ: ما هي طقوسكِ في الكتابة؟ يَنتظر الجمهور أن أحدّثه عن الموسيقى التي تُلهمني، وفنجان القهوة الذي يغمسني في عالَمٍ سحريّ، عن الأوقات التي أتخيّرها للجلوس إلى مكتبي والمدّة التي أمضيها غائبةً عن عالَم الناس أتفاوض مع الكائنات الخياليّة حول مَسارٍ مشوِّق وخاتمةٍ مُقنِعة. كيف أُفسّر لهم أنّ هذا السؤال قد يصلح للكاتب المتفرِّغ للكتابة، ولكنّه لا يصلح للكاتبات من مثيلاتي؟ أَأقول لهم إنّ طقوسي في الكتابة أن أتدرّب على القفز فوق الحواجز؟ أن أنتهز كلّ ما يُمكن انتهازه من فُرص للاختلاء بالحاسوب؟ طقوسي تتلخّص في عاداتٍ بسيطة: ألّا أترفّع عن كتابة السطر والسطرَيْن كلّما وجدتُ إلى ذلك سبيلًا.

أحيانًا تدهمني الفكرة وأنا عالقة في ازدحام السادسة مساءً، فأُخرِج الهاتف وأسجِّل عليه رسالةً صوتيّة أحوّلها فيما بعد إلى نصٍّ مكتوب. وأحيانًا يكون شيطانُ السرد مهذارًا فأنجح في ملء صفحاتٍ عديدة بين موعدَيْن. طقوسي أن أكتب وأنا أقفز من فوق الحواجز اليوميّة. كلّ ما في نهاري يحجزني عن الكتابة، غير أنّي أكتب. وكلّما كتبتُ صفحة شعرتُ بلذّة الانتصار. أركبُ حروفي كما يَركب أبطالُ شهرزاد البساطَ الطائر فإذا هي تحلّق بي فوق تفاهات اليوميّ وضغوطه. كأنّ تلك الدقائق والسويعات المسروقة من جحيمِ الواجبات تُمكّنني من أخْذِ ثأرٍ صغير. ها أنا ذا أقدّ بقوّة المخيّلة عالمًا مُنفلتًا عن الإحداثيّات جميعها، عالمًا لا حدّ لثرائه واتّساعه، أتحرّر خلاله من الإحساس بوطأة الزمن وضيق الأمكنة وفقر الاحتمالات، عالمًا لا حدّ لمرونته يذوب فيه الفرديّ في الجماعيّ والجماعيّ في الفرديّ ويستحيل الحاضر والماضي والمستقبل بدائلَ تحت التصرُّف.

تلك الجملة العنيدة

أذكر أنّي قرأتُ لمارسيل بروست قولة مُستفِزّة: «إمّا الكتابة وإمّا الحياة، علينا أن نختار بينهما». لم أشعر يومًا أنّ عليّ أن أختار بين الكتابة وأيّ شيء آخر. الكتابة زبدة الوقت تتعايش مع كلّ شيء. كلّ ما في الأمر أنّ الحياة في زمن الكتابة تصبح ذات جناحَيْن، جناحٍ يُرفرف بك قريبًا من الأرض، وآخر يخفق بكَ في السماء. تكون الأشياء من حولك مسطّحة رتيبة حتّى تأتي تلك الجملة العجيبة فتحطّ في رأسك وتُقيم فيه. هكذا تبدأ دَورة الكتابة عندي. جملة تسكنني لا أعرف كيف انتضدت مفرداتها، وكيف انتظمَ تركيبها، وتكوَّنت دلالتها. جملة كالنطفة، يتشكّل منها جنين الفكرة، ويُكسى لحمًا إلى أن يحين المخاض فيولد النصّ.

«هذا ما روته زبيدة حبيبة الطّاهر الحدّاد». سكنتْ هذه الجملة رأسي بألفاظها هذه لا تزيد ولا تنقص. تنقّلتُ بها أيّامًا وأنا أحملها داخل رأسي كبيضةٍ في عشّ. كيف خطرَ لي أن أخلق للمصلح التونسيّ الطاهر الحدّاد حبيبةً وهميّةً وأتخيّل أنّ لها كلامًا جديرًا بأن يُروى؟ ذلك من أسرار الأدب التي لا يعرفها أحد. من أسراره أيضًا أنّ تلك الجملة، وقد تخلّقت منها رواية «نازلة دار الأكابر»، لن يكون لها وجود في المَتن قطّ. وأغربُ من ذلك أنّ الشخصيّة الوحيدة التي لن ترويَ شيئًا، ولن تتكلّم أصلًا هي زبيدة عَيْنها، على الرّغم من أنّ خطّة السرد قامت على تعدُّد الرواة.

حصلَ الأمر ذاته في «الملفّ الأصفر»، ولكن على صورةٍ مُخيفة. كانت الجملة المُقيمة في رأسي تُنبئ بكارثةٍ وشيكة أو تجربةٍ روحانيّة مرعبة: «عزيزي عزرائيل لماذا لا أرى بعدُ نهاية هذا النَّفق؟» تلك كانت نطفةُ روايتي الأولى والسطر الافتتاحيّ فيها. هل قاومتُ الخوف بالكتابة وحوّلتُ النذائر إلى بشائر؟ أغلب الظنّ أنّ هذا ما حدث فعلًا في غفلةٍ كاملة عن الوعي. فبدلًا من أن أستقبل في حياتي عزرائيل صنعتُ له حيوات أخرى ينصرف إليها ويَنشغل بها عنّي، فاستولدتُ من العدم هاجر وغسّان ليكون الموتُ ثالثهما الضروريّ. هل كنتُ، من دون أن أدري، أكرّر صنيع شهرزاد في دفْع الموت بالسرد، وأنا لا أفتأ أتبرّأ منها، ومن نَسلها؟ هل يفدي الكاتب نفسه بكتابه؟ هل يقدِّم للخلود نصَّه بديلًا عن جسده حتميّ الفناء؟

لستُ أحبّ أن أتوغّل كثيرًا في هذه المسارب الفلسفيّة، لأنّها تُشعرني بفداحة المسؤوليّة. ما الجديرُ بأن أستنقذه من هذه الذّات العابرة في الملكوت كالشهقة القصيرة؟ ما الجدير بأن يكون هو الباقي منّي بعدما أُمسي في دورة الوجود غبارًا؟

لواقط جديدة

فلْأكتفِ بتدبُّر ما يحدث في حياتي عندما أبدأ في الكتابة، ما دامَ الخوضُ في المسائل الفلسفيّة مُدعاةً للشجن. ما يحدث هو التالي: بمجرّد أن تدهمَني تلك الجملةُ العنيدة، تنبتُ في رأسي لواقطُ جديدةٌ مهمّتها اقتناص ذبْذبات الوقائع. فجأة، تصير لثرثرة العجائز وأحاديث الغيبة والنميمة والقيل والقال وللتحليلات السياسيّة على القنوات التلفزيّة نكهة وأهميّة. تنفتح أذناي لضوضاء العالَم من حولي كأنّها مَنجمٌ بوسعي استثمار موادّه الخامّ بعد مُراكمتها ومُعالجتها وتدويرها. أغلبُ ما كان يزعجني يصير مخبرًا للتجارب. مخبر فوضويّ يتحرّك فيه عالَمٌ مجنون يَصنع على مَدار يومه خلطاتٍ عجيبة ويُجرِّب تفاعلاتٍ لا تخطر على بال البشر. أوّل مُنتجات ذاك المخبر الافتراضيّ مصلٌ عالي النجاعة يقضي على المَلل. يَزدحم رأسي بشخوصٍ طريفة تتشاتم وتتعاتب وتتضاحك، تُرافقني باللّيل والنهار خامشةً بأظافرها جدران الرتابة. نعم، أتشافى بالكتابة من السأم، أتعافى من عبثيّة الصخرة التي أدفعها كلّ يوم في مسلكٍ جبليّ لأجدَها في اليوم الموالي قد تدحرجت إلى السفح من جديد. أشعر أنّي أغتنم العمر فيما يفيد، أنّي أخطّ على صفحة الوجود أثرًا سيراه من بَعدي شخصٌ ما لا أعرفه ولا يعرفني، بيد أنّه سيَقف مُتمعِّنًا فيما تركْتُه من أثرٍ، تمامًا كما نَقف اليوم مشدوهين أمام رسومات الإنسان الغابر على جدران المغاور الأثريّة.

هل تضفي الكتابةُ على حياتي معنىً؟ لا أظنّ ذلك، فحياتي مليئة حقًّا بمعانيها، مليئة بالحيرة والأسئلة الوجوديّة، مليئة بعدم الرضا عن النَّفس وبالتفتيش عن الجوهر. إنّما الكتابة تضفي على موتي معنىً كي لا يكون مروري بهذا العالَم شبيهًا بمرور أيِّ دويبةٍ عابرة.

المجدُ لحبّار الأرض

ختامًا، لا بدّ أن أسرد عليكم هذه القصّة القصيرة جدًّا.

كنتُ أُنظّف الحبّار لمّا انفجرَ بين أناملي كيسُ حبره الأسود. سوادٌ لزج كثيف غَمَرَ الحوض ولطَّخ زجاج النافذة خَلفه. تأمّلتُ أَثَرَ الحبر على أناملي ومن حولي، فانسابت في رأسي أسئلة ورديّة: هل عَلِمَ هذا الكائن الرخويّ الرقيق وهو يَلفظ أنفاسه أنّ حبره سيعيش بعده؟ وكم منّا، نحن حبّارات الأرض، سنحظى مثله بهذا الشرف؟

* روائيّة وأكاديميّة من تونس

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية