قَدِمْتُ إلى المملكة العربية السعودية في نهاية الستينات، بعد هزيمة 1967، لسوء الأحوال الاقتصادية في الأردن.. وبحثاً عن رزق جديد، في بداية حياتي الزوجية. ومكثت فيها حتى بداية التسعينات من القرن الماضي. وكانت المملكة في ذلك الوقت تشهدُ نهضة ثقافية كبيرة، من خلال شباب متحمسين للحياة الجديدة، وظهر فيها من الرموز الثقافية الطليعية، مثقفون كثيرون من أمثال الراحلين سباعي عثمان وعبد الله الجفري، وأمثال الناشطين مشعل السديري، وسعيد السريحي، والشاعر أحمد عائل فقيهي وغيرهم، في جدة والرياض والدمام. وسرعان ما تم اللقاء بيني وبين عبدالله الجفري، الذي كان يكتب عموده الرومانسي اليومي في "عكاظ"، ثم مع سباعي عثمان القصاص الماهر، والمشرف على الصفحة الثقافية في صحيفة "المدينة"، وقد أدت هذه العلاقة إلى دراسة فنهما القصصي، وكتابة فصلين عنهما في كتابي النقدي، المخصص للقصة القصيرة السعودية الناشئة في ذلك الوقت (المسافة بين السيف والعنق، 1985). ثم عرفتُ مشعل السديري الذي كان يكتب حيناً في "عكاظ" وحيناً في الملحق الثقافي لصحيفة "المدينة". وامتدت صداقتنا سنوات طويلة، وما زالت حتى الآن.
كان مشعل السديري في تلك الفترة ظاهرة ثقافية مميزة. وسبب تميّز هذه الظاهرة، أنه كان متابعاً جيداً لمعظم التيارات السياسية والثقافية في العالم العربي، رغم أنه كان بدوياً قُحاً في نسبه، ومدنياً قُحاً في ثقافته وتفكيره. فهو ابن عشيرة نجدية عريقة، لا شأن لها كثيراً بالفن، ورغم ذلك، فقد كان ظاهرة فريدة - كابن عشيرة - عندما سافر إلى إيطاليا لدراسة "فن الرسم"، وليس إلى بريطانيا أو أميركا للانتساب إلى إحدى الكليات العسكرية، وعاد إلى المملكة يرسم قليلاً، ويكتب كثيراً في ثقافة طليعية راقية. وكان معظم أصدقائه على هذا النحو من الطليعية والحداثة، بدءاً بالراحل عبد الله الجفري، وانتهاء بالشاعر الفلسطيني/السوري الراحل فواز عيد. كما كان مشعل السديري يتردد بين حين وآخر على لبنان ومصر، وكانت له صداقات وعلاقات مع شعراء ومثقفين لبنانيين ومصريين وعرب طليعيين يقيمون في بيروت والقاهرة. وكان اللافت للنظر في مشعل السديري، في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، هذا النفس الطليعي المميز، وهذه المتابعة الدقيقة لمسارات الحرية والديموقراطية والحداثة في العالم العربي والغرب، حيث كان من أوائل المثقفين السعوديين الذين كتبوا عن "كولن ولسن" مثلاً. وكان من أوائل الكتاب السعوديين الذين قدموا للقارىء السعودي دراسة تحليلية لاتجاهات الأدب الطليعي العالمي ("عكاظ" 18/7/1969) قال فيها: "إن الكوميديا القاتمة هي روح العصر، وهي لا تظهر إلا في الأزمات"، وإن "البطل في العمل الفني المعاصر لا يحمل صفات مثالية"، وإن "الجيل الجديد الغاضب رافض لكل القيود"، وإن "الوجودية حركة تفتقر إلى النظرة الاجتماعية"، وغير ذلك من الآراء والأفكار التقدمية، التي بهرت الكثيرين في ذلك الزمن الجميل، وكنتُ أنا منهم.
ويبدو أن حال مشعل السديري كحال أبيه الشاعر النبطي الراحل محمد السديري، من حيث إنه لن يترك وراءه كتاباً. فالشاعر محمد السديري رغم شهرته وصيته الكبير كشاعر نبطي، إلا أنه لم يترك لنا ديواناً شعرياً، مما اضطر أولاده من بعده، إلى جمع قصائده وإصدار ديوان له من بيروت، تحت عنوان (ديوان محمد السديري). ولم يمهل الموت محمد السديري، لكي يصدر ديوانه الشعري الآخر (حداوي الخيل). ومشعل السديري كتب في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، سلسلة مقالات مهمة ومميزة في صحيفة "عكاظ" وصحيفة "المدينة"، كان عليه أن يجمعها في كتاب، لكي يتيح للأجيال الجديدة، التي ولدت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وهي الآن في العقد الرابع أو الخامس من عمرها، أن تقرأ هذه الكتابات المليئة بالأفكار الطليعية التقدمية الجريئة. ففي تلك الفترة كتب مشعل السديري كتابات عقلانية وعلمية ونقدية منها: (حديث حول العقلانية والعلم والأسلوب)، ومنها (مأساة العقل الطيب)، و(هؤلاء العرب وطموحهم النازل)، و(الفنان وتحديات العصر). وعن الشاعر الحداثي الفلسطيني/السوري فواز عيد، كتب في (من يقرع الأجراس في المدن النحاسية؟) قائلاً: "فواز عيد، شاعر يعيش الضياع والقهر والتعب، ولكنه لا يرضى به. لا يتجمد في حدود مواقعه، أو في حدود ظروفه. وهذا هو البعد أو المفتاح لأية شخصية حية، تُترجم الحركة ترجمة حسية طردية. إنه يصيح على لسان بودلير: (أنا السكين والجرح). وكل من تتبع شعر فواز عيد يلاحظ أنه دائم الالتفاف والحنين إلى الماضي. فالوطن والأرض تشده إلى ماضيه، أو تكبله في حاضره الشاحب. فينسج من (حرير الوهم) أنباءً عن الذي يأتي؛ أي أن الوهم وليس اليقين، هو الذي يقفز إلى المستقبل". وكتب مشعل عن الشاعر الحداثي اللبناني أُنسي الحاج، يقول تحت عنوان: "ماذا صنعتَ بالذهب.. ماذا صنعتَ بالوردة؟" مردداً شعر أُنسي الحاج: حبي لا تكفيه أوراقي، وأوراقي لا تكفيها أغصاني، وأغصاني لا تكفيها ثماري، وثماري هائلة لشجرة أنا شعوب من العشاق حنان لأجيال يقطر مني.
ولكن يبدو أن مشعلاً، في بداية القرن الحادي والعشرين، وجد أنه يصرخ في واد، وينفخ في رماد، وأن لا أحد يريد أن يهتدي أو يسلك طريق الرشاد، فجُنَّ جنونه وقرر أن يكتب بالسكين، ويتحول الى "كاريكاتيرست Caricaturist" (رسام كاريكاتير، ولكن بالكلمات لا بالريشة) يرسم المآسي بقلم ضاحك/حزين جداً (ولا ننسى أنه كان رساماً في نشأته). فظنه البعض مهرجاً ساذجاً يُضحك الناس، ولكنه كان المهرج الحزين جداً على حاله، وحال من حوله، ويُبكي، ولا يُضحك. ومن هنا نقول، إن مشعل السديري أصبح الآن، "كاريكاتيرست" ليس بالخطوط ولكن بالكلمات، شأنه شأن ناجي العلي، أو صلاح جاهين في بعض الأحيان، وإن هذه الظاهرة بدأت لديه منذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ولعل مقارنة بسيطة بين ما كان يكتبه في تلك الفترة، وما يكتبه الآن، تُبين لنا أن مشعلاً كان كاتباً ساخراً منذ البداية، وكان إنساناً ساخراً وحزيناً كذلك، قبل أن يكون كاتباً ساخراً، وكنا نضحك من سخريته، وكان بعضنا يعتبره مجنوناً، ثم ظهر لنا - فيما بعد – أن كثيراً من أصدقائه كانوا مجانين. وكان هو العاقل فينا. أما حزنه فقد كان غائراً في العمق، ومحفوراً في قلبه كالحفر على الصخر، لا يمّحي. وحتى عندما كان يضحك، أو يروي نكتة مضحكة، فقد كان يضحك بسوداويّة وبحزن، ويروي نكتة سوداء، تُبكي، قبل أن تُضحك! فمهنة المهرج الحزين، التي يؤديها مشعل السديري الآن بمهارة ودقة متميزة، في الصحافة العربية، من خلال مقالاته المضحكة/المبكية ليست بالمهنة البسيطة. وهو كأي مهرج حزين، يُبدِّل الكثير من أقنعة وجهه، ويستهلك الكثير من الألوان، والأحبار، وأنواع "البودرة" المختلفة.
وما زال في الجعبة ذكريات كثيرة، عن ذلك الزمن الجميل.