الصلات التي تربط الأمة العربية بعضها ببعض صلات قوية متينة قوامها العقيدة واللغة والدم والتراب والجوار، فهي وحدة متماسكة متواشجة رغم التقسيمات المصطنعة التي أوجدها كيد المستعمر وأصابعه الخبيثة، ولم تزل تأخذ بتلابيب هذه الأمة وتفرض نفسها عليها رغم ما يريده المصلحون وما يدعو له العاملون.. وهو أمر متحقق لا محالة ولكن القضية قضية زمن.. هو ما يقتضي نضج الأمة ووعيها...

أما الصلات التي تربط قلب الجزيرة بالشام فهي فوق ما ذكرنا من صلات العروبة - صلات متمكنة وأشياء

ترتكز على النسب والثقافة والعلم والتجارة والهجر المتبادلة.


فمنذ أن اندفعت موجات القبائل العربية من قلم جزيرتها ممثلة في لخم وجذام وعاملة وغسان. لتستق في قرارة الشام وتقيم ملكًا وتبني دولة قوامها عرب الجزيرة ورجالها أبناء قحطان وعدنان.. يدلون بعنصرهم ويفخرون بقومهم ويفدون إلى دولتهم بالشام فيلقون الإكرام والإجلال، ويتبارى الشعراء بالمدائح ويتجاري الخطباء بالخطب، ويلقى بنو عمومة الملك من أزد السراة وأزد شنوة وازد عمان وبنو قيلة من الأوس والخزرج بالمدينة.. يلقى هؤلاء وهؤلاء من العطايا والتحف والبر ما يعودون به بجر الحقائب وافرى البر والخير..

وما لبثت هذه الموجات قليلًا حتى استقرت ونمت وأصبح لها شأن في نمو البلاد وازدهارها، وأصبح منها العلماء والقادة والأدباء والشعراء والأعلام المبرزون.. بطون من قحطان وأخرى من عدنان منهم غسان وقيس وربيعة وكلب وضبة وحنيفة قامت لهم دول وامارات في دمشق وحلب والشرارة والجولان.. وانطلق شعراء هؤلاء وهؤلاء يجدون في الشام ملتقطات الدرر وعيون الشعر.

يتبارى جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم من أعلام شعراء الجزيرة في بلاط دولة أمية يخلدون الشوارد والفرائد ويجدون الدرر والغرر.. ويتبارى آخرون في أروقة الشهباء يمجدون بني حمدان ويصفون العظمة والعروية في أجلى مظاهرها هنالك..

ولم تقف الهجرة من قلب الجزيرة إلى سورية عند زمن ولا عند قبيلة دون أخرى، بل إننا نرى بطونًا من

قضاعة القحطانية، وبطونًا من عنزة الربيعية، وبطونًا من شمر الطائية، وبطونًا من خالد العامرية. وبطونًا

من خفاجة وهلال العامريتين، وغيرها من البطون الكثيرة اتخذت سورية مرتادًا فمستقرا وأصبح معظم العشائر السورية اليوم ترجع أروماتها إلى قلب جزيرة العرب وتقوم بينها وبين بني عمها في الجزيرة أواصر نسب وقربي.. ولا يقتصر هذا على العشائر البدوية فحسب. بل إن كثيرًا من البيوتات والأسر في حواضر الشام وقراها تضرب بجذور مكينة وشائج قربي مع أخوات لها في مدن المملكة وقراها وباديتها.. وصلات التجارة وتبادل المصالح كنا إلى زمن قریب ندرك القوافل تجوب عرض الجزيرة جيئة وذهابًا تحمل منها السمن والجلود والصوف والوبر والشعر. وتستاق الإبل والغنم والخيل تجد في أسواق الشام منتجعًا يستقبل ما معها ويغريها ويحملها على المتابعة والاستمرار، كما تجد فيها مبتغاها من الكساء والغذاء والسلاح والحلل والحلى وأدوات الزينة والمصنوعات والمفروشات وغيرها.

وكان من ينتجعون الشام ويتعاملون مع أسواقها يسمون (عقيلا) ولا أعلم عن مصدر هذه التسمية شيئًا إلا أنني أهجس بأن عقيلا القبيلة العامرية المنقرضة، وقد كان لها شأن في قلب جزيرة العرب وتجارة ونقلة في زمنها، عرفوا الشام وعرفتهم بما تقبل وتدبر به قوافلهم من قلب الجزيرة واليها، وظل هذا الاسم ملازما للعرب الذين يتعاملون مع أسواق الشام عبر الزمن سواء كانوا عقيلا أو غيرهم.. هذا ما أتوقعه..

وكان سوق عقيل في دمشق يسمى (سوق العصر) يضج بأصوات الباعة وبرغاء الإبل وثغاء الغنم ويمتد. بسواد البشر بيعًا وشراء ومماكسة لاينكر من وجوه عقيل من أهل نجد أحدًا.. يوضح لنا ذلك ما حدث حينما حوصرت بلاد القصيم من قبل ابن رشيد وضيق الحصار على أهلها فزع أهلها إلى الشعر يستنفرون رجالهم في الشام ويلهبون حماسهم ويثيرون نخوتهم وشجاعتهم ووطنيتهم.. ليقف الشاعر الشعبي الجهير محمد بن عبد الله العوني فيطلق قصيدته المسماة (الخلوج) ويبعث بها لرجال القصيم في الشام شعلة ملتهبة من الحماسة متاججة بالنخوة شاكية باكية:

خلوج تجذ القلب بأعلى عوالها

تكسر بعبرات تحطم سلالها

تهيض مفجوع الضماير بحسها

إلى طوحت صوت تزايد هجالها

إلى جيت (سوق العصر) تأتيك غلمة

تخشع بزبنات البريسم نعالها

يقولون لك يا صاح عطنا علومك

بلدان (نجد) عقبنا وش جرى لها

قل أمكم من عقبكم لبست العنا

تبكي على الماضين واعزتي لها

وشيبانكم تضرب على غير جابه

من عقب ذاك العز تنتف سبالها

إلا در على اليوم ما هوب باكر

يالعنبو نفس تناقى بما لها

ترى مركب الأخطار هو مصعد العلى

ولا يدرك العليا غيور شكى لها

قصيدة طويلة مؤثرة سارت على هذا النمط حتى إذا وصلتهم فزعوا للأموال والسلاح والشباب المتحفز الثائر، وقادوها متعلمة تحفزها الوطنية وتحدوها الغيرة.. وما النصر إلا من عند الله..

1977*

* شاعر وصحافي ومؤرخ سعودي «1919 - 2011»