جاهد كثير من المثقفين العرب وعبر مجموعة ضخمة من المقولات والحوارات والمراجعات، من أجل صناعة وعاء خاص، يمكنه احتواء النظريات الفكرية الغربية، وإعادة إنتاجها في أشكال ومضامين إسلامية وعربية، غير مكتفين بنقل تلك النظريات الفكرية كما طرحها عصر التنوير الأوروبي وما بعده، وهذا لا يعني أنه لم يتم نقل بعض تلك النظريات بحذافيرها كما هي، غير أن رد الفعل قاوم ذلك وناهضه، عبر أفراد وكيانات دينية وأخرى محافظة، كانت تشدد على استحضار المقومات الفكرية والنظرية العربية والإسلامية أو الاكتفاء بها دون إدخال أي شيء آخر معها.

وكانت «فتنة» توظيف أدوات وآليات النقد الغربية في القضايا الفنية والفكرية العربية والإسلامية، هي الباب الأوسع لدخول فكر التنوير الغربي الأوروبي في الثقافة العربية المعاصرة، وهو مما طوَّر سجالية ممتدة على مدى قرن كامل من الزمان وزيادة، من بدايات القرن العشرين وحتى اليوم، مكن العقل العربي من إضافة جسور معرفية يمكن أن تشكل طريقاً من اتجاهين مع حركة الاستشراق، التي جاءت بعد بضعة قرون من حركة نقل المعارف إلى أوروبا والتي تمت بوسيط عربي وإسلامي.

ولربما كان السجال مع الاستشراق في الجوانب النقدية، ولَّد قطيعة معرفية مع الثقافة العربية لبعض الوقت لدى بعض المثقفين العرب، مما جاء برد فعل معاكس، جعلت أولئك المثقفين الذين تعاطوا مع الثقافة الغربية، يقومون بعملية إيجاد شواهد لتلك النظريات الغربية في التراث العربي والإسلامي، حتى يتمكنوا من تجاوز عدم القبول، وعدم استساغة وجود النظرية الغربية صلبة داخل المعرفة العربية، مما خلق نظريات مهجنة، تناسب حال العربي الرافض لفكرة يقول عنها عالم دين أو مثقف محافظ إنها دخيلة وطارئة على الفكر العربي والإسلامي، ومن هنا جاءت على سبيل المثال محاولة المزاوجة بين «الديمقراطية» النظرية الأصيلة في الفكر الليبرالي الأوروبي، بالشورى ذلك المفهوم الإسلامي الأصيل، وجاءت كذلك محاولة إيجاد المستندات المعرفية العربية والإسلامية لمسألة «الاشتراكية»، ويمكن ذكر مجموعة كبيرة من مثل هذا، كدلالة على وجود محاولة الربط تلك، سواء على مستوى النظريات الكبرى في الفكر الأوروبي، أو ما يتفرع عنها من مسائل جزئية صغيرة، تماست مع الفكر العربي والإسلامي، أو حاولت اختراقه عبر المثقفين ذاتهم الذين كانوا يحاولون التحرك لصنع نهضة علمية ومعرفية، تقود إلى نهضة حضارية عربية، بغض النظر عن هل أصابوا أم أخطؤوا الطريق؟!


وهنا أنا لا أسيء الظن بمثقفينا قديمهم وحديثهم، كما فعلت بعض الدراسات أو كما فعل بعض المثقفين الموصوفين بالمحافظين ناهيك بالمؤدلجين، بل أقول هو مستوى ضروري من التعاطي الحضاري في جانبه المعرفي، يقوم ويعدل ويصحح، أو ربما يمكن أخذه كاملاً، عبر الحوار والمراجعة، بعيداً من الاتهام، وفوق هذا فأنا أعتبره محاولة جادة للاقتراب من هذه الثقافة (الأخرى) ومعرفتها من عمقها، وقد أشار سعد الصويان إلى هذا الأمر بطريقة غير مباشرة، حينما فكك مسألة انتحال الشعر الجاهلي، وفندها منهجياً، وذلك بفك شيفرات الشعر النبطي وإعطائه مستندات دلالته على الشعر الجاهلي، وأوضح اضطراب منهجية طه حسين في تقليده لمنهجية «مرجليوث»، و«ميلمان باري»، و«ألبرت لورد»، المطبقة على ملاحم الإغريق، والتي تختلف شكلاً ومضموناً عن القصيدة العربية، فبهذا النقل من قبل طه حسين، والذي واجه سجالات كثيرة، وبالمنهجية الفريدة التي اتبعها سعد الصويان، وصلنا إلى عمق نظريات غربية في النقد والاستدلال والتحليل، ولكن لم نسلم لها، بدليل المشروع النقدي المناهض لفكرة انتحال الشعر الجاهلي.

وهذه العمليات المعرفية النقدية والمقارنة، يمكن أخذها في سبيل عمل مقاربات لاكتشاف مساحات شاسعة من فكرنا العربي لا يتم اكتشافها أو كشف عنها بسهولة للجيل المثقف الصاعد، كما أنها سبيل لمعايرة قوة الفكرة لدينا، وسبيل لكشف الزيف والدخيل والمهترئ من بعض أفكار قد تسهم في تعطيل العقل العربي عن مواكبة العصر والزمان، وعن ريادة الحضارة المعاصرة.

وبالنظر إلى محددات الثقافة الثلاثة كما وصفها محمود شاكر في مجمل كلامه عن المنهج في كتابه «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا»، (2009)، وهي اللغة والدين والتاريخ، نجد أنها الأساس المعرفي للانطلاق في أي مشروع فكري، وفي أي حقل علمي أو حتى تنموي، وهذا التأسيس لا يقوم على أحد هذه المحددات وحدها، بل يجب أن يقوم عليها مجتمعة كشرط معرفي لا يمكن التنازل عنه، للبدء بما يمكن أن نطلق عليه مشروعاً فكرياً عربياً أو إسلامياً، غير أن رفض المشاريع الفكرية القائمة على التماس من النظرية النقدية الغربية، والتي تقوم في أساسها على واحدة من هذه المحددات مستبعدة البقية، هو عمل غير صائب، والمفترض أن يتم قبولها ومناقشتها، ونقدها النقد الذي يحاول التعاطي مع النظرية الصحيحة في داخلها، ونفي ما قد يشوش على أصالة الفكرة العربية والإسلامية، ولكن في الوقت ذاته لا يحرمنا من نبالة المعاصرة، التي تمثلها النظرية الغربية بجدارة اليوم، بسبب ريادتها المعرفية.

ومحمود شاكر قد صدر كتابه المهم «المتنبي»، (1987) [الذي نشر في أول أمره بعدد خاص من مجلة المقتطف، في يناير سنة 1936]، بكلمات نشرت لاحقاً في كتاب مستقل وهو الذي أشرنا إليه آنفاً، وكان يروم فيه، كشف التاريخ الذي أدَّى إلى فساد الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية -من وجهة نظره- وما نشأ فيها من المناهج التي كانت ولا تزال، تسود الحياة الأدبية والثقافية -بحسبه- والتي رفضها شاكر، واختط لنفسه منهجاً خاصاً، كان كتابه «المتنبي»، (1936) تطبيقاً له على وجه من الوجوه.

وحينما تضع كتاب طه حسين، في «الشعر الجاهلي»، (1926)، مع كتابي محمود شاكر، «المتنبي»، (1936)، وسعد الصويان، «الصحراء العربية»، (2010)، وكلاهما رد بطريقته على مسألة انتحال الشعر الجاهلي عند طه حسين، ستجدها أفضل مثال على التفاوت في توظيف المحددات الثلاثة للثقافة، وبزوايا مختلفة، بين قطيعة شبه تامة عند طه حسين، وتماهٍ تام عند محمود شاكر، وتعاطٍ حر عند سعد الصويان، وكذلك إذا قسنا التعامل مع النظرية الغربية سنجد أن الثلاثة كانوا كذلك طرفين ووسط، فعند حسين تماهٍ تام، وعند شاكر قطيعة مبرمة، وعند الصويان تعاطٍ حر، ومن هنا يمكن التقاط فكرة المقال، وهي مسألة انتماء المثقف وولائه لثقافته الأم، أو اغترابه عنها.

وغالب اغتراب المثقف العربي، أو كما يعبر عنه جوزايا رويس «بعدم الولاء» كما في (فلسفة الولاء، 1930)، ناجم عن عجز المثقف تجاه مجتمعه، بسبب الفجوة بين وضع المجتمع وما يتمناه المثقف لذلك المجتمع، مما يفقده الارتباط بالمجتمع واقعاً وتقاليداً وموروثاً، مما يولد حالة من «عدم الولاء/ الاغتراب»، تجعله يتماهى مع الفكر من خارج منظومته ومحيطه، لا بشكل التعاطي الإيجابي الحر، وإنما بشكل الاستجلاب المستلب أمام فكر حقق نجاحاً في بيئة وموروث مختلف جذرياً عن بيئته وموروثه.