الجانب الإيجابي في تيار الثقافة القومية، على الرغم من عموميتها ودوغمائيتها وانتقائيتها، تجلى في إدراك مبدأ جوهري ألا هو وحدة وحضارة الأمة. كان هذا مبدأ ضرورة تاريخية ردا على محاولة الغزو والاجتياح بعد سقوط الخلافة العربية، وتمزيق الوطن العربي إلى دويلات وإمارات وطوائف وعشائر وأقليات في مناخ هذا السقوط والتمزيق.

وبعد دخول الأمة في رحلة غيابها، برزت الدعاوى الإقليمية، السياسية والثقافية، انطلاقا من ماض تاريخي سحيق تجاوزه العصر، وتحول حضاريا إلى نوع المستحاثات الهشة المدفونة تحت الغبار.

لقد ظهرت دعاوى الفرعونية والفينيقية والسورية واللبنانية والبربرية داخل لحظة انهيار الحضارة العربية، وفي مرحلة الانقسام التاريخي، واستشرت ثقافة هذه الدعاوى المضادة عندما عجزت الثقافة القومية الديمقراطية عن تأسيس جذري لثقافة شعبية ناهضة علمية.


كانت هذه الدعاوي الإقليمية تذرو رياحا ديماغوجية حول وهم حضارات مندثرة، وهذه الدعاوى كانت تلتقي مع الفكرة السلفية في ثقافة الدعاوى الإقليمية والثقافة الرجعية العربية، وكان هناك جذر عنصري - شوفيني معاد للتقدم، ومعاد للنمو والتطور التاريخيين اللذين دخلهما المجتمع العربي توقا إلى مستقبل ناهض معاصر.

هكذا ولًدت ثقافة الكيانات الحضارية الإقليمية، وثقافة الرجعية، حالة سكونية - هذيانية حول ماض تاريخي، سكوني هو الآخر وميت.

إن حضارة الفراعنة وثقافتهم، وحضارة الفينيقيين وثقافتهم، وحضارة الإسلام الأول وثقافته، كانت لحظة تاريخية عظيمة في عصرها. غير أن إسقاطها التاريخي القديم على العصر الراهن المتغير، اقتصادا وسياسة وإنسانا وعلاقات اجتماعية، ليس أكثر من حالة رجعية - وثنية ترتد بالمجتمع والإنسان إلى الوراء آلاف السنوات.

كيف يمكن أن نتقدم ونتطور في عصر التكنولوجيا وكشوف علم النفس والفلسفة والآداب والفنون المعاصرة ونحن نتأبط العصور الزراعية البدوية وعصورالأعمال اليدوية - البدائية الأولى؟ّ!

كيف نتقدم ونحن نفكر مثاليا بأفكار ما قبل الاكتشافات العلمية - العقلية التي قلّبت الكون وغيّرت خريطة المجتمع والإنسان؟! كيف يمكن أن نكون ونستمر في الوجود في عصر وحدة الشعوب والأمم والكتل المتجانسة أوروبية - أمريكية - دول «اشتراكية» ونحن نحلم ونؤسس أقاليم ومسوخا تعود في تركيبها الاقتصادي والثقافي إلى ما قبل التاريخ؟!

إن هذا التهريج الانحطاطي ثقافيا يتجلى في هذه اللحظة الراهنة من الانحدار العربي، في هذه البرهة التاريخية من غياب الأمة عن المسرح. هذا التهريج الانعكاس التاريخي لجذر المسألة ألا وهو الوضع المتردي.

1981*

* كاتب وروائي سوري «1936 - 2023»