من بعيد، ومن سحيقِ قرونٍ غابرة، كانت فيها البشرية المتوحشة ترى بعضها بعضا حيوانات بشريّة تيسيرا للقتل والإبادة، انبعث صوت هذا الزعيم بأنه يعتلي قمة ما يُسمّى «حضارة الزمن الغربي»، ناطقا بأخلاق الحيوانات.
سفاحون وبرابرة
منذ أواخر القرن التّاسع عشر، بدأت صناعة السينما (ومعها الصحافة) تُستخدَم في محوِ جرائم القَتَلة الأوروبيّين، من إسبان وفرنسيّين وبريطانيّين، الذين أبادوا شعوب أمريكا أصحاب الحضارات الزاهية والراقية (حضارة المايا، والأزتيك، والأولمك، والكارال سوب، وخمس حضارات أخرى)، فأمريكيّو اليوم أوروبيّون اغتصبوا الاسم الأمريكي، وانتزعوه عنوةً من أصحابه الأصليّين بعدما أبادوهم، واستولوا على أرضهم وخَيراتهم وذَهَبِهم، وصَنعوا منها ولايات متّحدة وكندا، فهُم ليسوا كنديّين ولا أمريكيّين، بل هُم أوروبيّون غزاة سفّاحون وبرابرة، تماما كالإسرائيليّين الذين هُم أوروبيّون برابرة أيضا.
منذ ألف عام جاء الأوروبيّون إلى القدس باسم المسيحيّة وبثوبٍ صليبي، واحتلّوها مائتي سنة، ثمّ جاءوا بعد ألف عام باسم اليهوديّة وبثوبٍ صهيوني، وها هُم يحتلّونها منذ مائة سنة. والفَرق بين إبادة اليهود على يد النازيّة وإبادة الفلسطينيّين على يد اليهود هو أنّ هتلر احتاجَ إلى قدرٍ من السريّة في المُعتقلات وغُرف الغاز. أمّا الصهيونيّة الأوروبيّة فإنّها تفعل ذلك عيانا بيانا، في الهواء الطلق و«على المكشوف»، على الشاشات الكبيرة والصغيرة، في التلفزة وعلى الهواتف.
الانقسام السياسويّ الزائف
صمود أهل غزة الأسطوري في وجه أعتى بربرية عرفها تاريخُ البشريّة قسَمَ العالَمَ، لا بين شرقٍ وغربٍ أو بين دولٍ مؤيِّدة ودولٍ مُناوئة، بل بين حكومات الدول وشعوبها، وهذا من طبيعة النّظام العالَمي القائم على تحكُّم مصالح الشركات الرأسماليّة الكبرى والبنوك ومصانع السلاح ومُختبرات الأدوية بمقدّرات الشعوب ومصائرها، والقائم على تغليب المصالح الاقتصاديّة والماليّة على مبادئ الحقّ والعدالة. وليس من المُبالَغة في شيء القولُ إنّنا نَقف اليوم أمام إحدى اللّحظات التاريخيّة التي تغيِّر مجرى التاريخ، وإن كنّا لا نراها اليوم بالوضوح الكافي لأنّنا داخلها، ونَحتاج إلى مسافةِ وقتٍ لرؤيتها عن بُعدٍ بالوضوح اللّازم.
منذ بعض الوقت انقسمَ الأمريكيّون بين مؤيّدٍ لدونالد ترامب ومُناوئٍ له، وكاد هذا الانقسام السياسويّ الزائف يؤدّي إلى حربٍ أهليّة أمريكيّة. أمّا الانقسام الحاصل اليوم، لا في الولايات المتّحدة وحدها بل في جميع الدول الغربيّة، وفي العالَم، فهو الانقسام الصحّي الصحيح، حيث إن أيُّ حدثٍ تاريخي أو أيّ قضيّة سياسيّة كان يُمكن لها أن يقسم البريطانيّين مثلما قسّمتهم حرب غزّة التي أعادت إلى العالَم القضيّة الفلسطينيّة ناصعةً وبشكلها التّامّ.
لم يعُد مُمكنا أن يكتسب الكلام والكتابة صدقيّةً ومعنىً اليوم إذا كان من خارج الفكر الذي وُلِد مع حرب غزّة، حيث خَلقت هذه الحرب مناخا فكريّا ميزته الأساسيّة أنه فِكرٌ باتَ العالَم بأمسّ الحاجة إليه بعدما أسِنَ الفكر واستنقعَ تحديدا بسبب استيلاء المفكّرين الصهاينة على المَنابر والمنصّات الإعلاميّة والثقافيّة، التي لا تفعل أكثر من تسويقِ فكرٍ معتلّ هو فكر «مُعاداة الساميّة»، فهذا ريك وايلز Rick Wiles، رجل الدّين المسيحي الذي طُرِد من منصّة «يوتيوب»، لأنّه يفضح مُمارسات الصهيونيّة في العالَم، لا في فلسطين فقط، يقول: «إذا لم نوقِف الصهيونيّة الآن سنُصبح كلّنا فلسطينيّين، وفي مخيّماتِ لاجئين تحت حُكم الصهاينة».
جَعْل الفيلسوف صحفيّا
غيَّرت حربُ غزّة العالَم، وشَحَنَتِ الفكرَ بأكسجينٍ جديد، استردَّ به المفكّرون أنفاسهم بعد اختناقٍ قاربَ نحو نصف القرن، لم يَظهر فيه سوى «الفلاسفة الجُدد» (برنار هنري ليفي وألن فلكنكرو وأندريه غلوكسمان..) الذين نصّبوا أنفسهم فلاسفة، ودمّروا الفكر الفلسفي بجعْل الفيلسوف صحفيّا وبوقا إعلاميّا يُسانِد إسرائيل، و«المسيحيّين الجدُد» (دونالد رامسفيلد، وجورج بوش، وكولن باول، وكونداليزا رايس، وستيفن هادلي، وديك تشيني..) الذين دمّروا دولا عربيّة وأمريكيّة جنوبيّة وإفريقيّة بأكملها. كما خلقت حرب غزّة مناخا فكريّا ساعَد المُتلعثِمين العرب على النطق بما كانوا يخشون قوله أو يتردّدون في قوله، فبات يسيرا على رجال القانون أن يقولوا إنّ ما كان النظام الدولي يُحيط به نفسه من حقوق إنسان ومنظّمات أُمميّة وعدالة وديمقراطيّة لم يكُن سوى سلاح يصطاد به سذاجة الشعوب الضعيفة، ولم يكُن سوى نظامٍ صُنِع خصّيصا بعد الحرب العالميّة الثانية لخدمة المُنتصِرين. كما بات بمُكنة السياسيّين الذين كانت الصهيونيّة تُعبِّد لهم الطريق للوصول إلى كراسي الحُكم أن يتحرّروا من الوصاية الصهيونيّة، وبات مُمكنا للمثقّفين والكتّاب الذين كانوا يرتزقون من صحافة الصهيونيّة العالَميّة و«شقيقاتها» في العالَم أن يستردّوا شيئا من كرامتهم بقول كلمة حقّ وكتابتها، ولو مرّة واحدة قَبل موتهم.
ملء الفراغ
ألَم تُقدِّم حرب غزّة مفتاحَ الحلّ لِلّغز الكامن في السؤال المخجِل والمخزي الذي يُثير استغرابَ العالَم حينا، وقَرفَه من العرب حيناً آخر: كيف أَمكن وقوع أكثر من 200 مليون عربيّ تحت عبوديّة تتدرّج من الخضوع التامّ إلى الاستكانة والخنوع، يَفرضها عليهم 10 ملايين يهودي؟ علاوةً على الهزّة التي أَحدثتها داخل إسرائيل على المستويَيْن العسكري والاجتماعي، أَحدثت حربُ غزّة هزّةً داخل الوعي العربي، فاستفاقَ بعد غيابٍ طويل.
ثمّة سوء فهم يُحيط بالعلاقة بين إسرائيل والدول الغربيّة لا بدّ من تبديده، فالإستراتيجيّة التي رسمتها الدولُ الاستعماريّة في مؤتمر لندن (1907) ما زالت قائمة، ويجري تنفيذ قرارات هذا المؤتمر بحذافيرها، والأوروبيّون (بريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولّندا، وإيطاليا، وإسبانيا والبرتغال)، ثمّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة، عندما وضع إيزنهاور في 1952 عقيدة أمريكا الاستراتيجيّة «ملء الفراغ» بعد انحسار ظلّ بريطانيا العظمى لا عن المنطقة العربيّة وحدها، بل عن مناطق أخرى من العالَم، هُم الذين قرّروا احتلالَ فلسطين وإبادةَ شعبها، وإقامةَ دولةٍ لهم، لتكون حاجزا يَمنع التواصُل بين مصر وسوريا. دولة فاصلة أو حاجزة (Buffer State أو Etat tempon) من أجل السيطرة على المنطقة العربيّة، أي «من المُحيط إلى الخليج»، بحسب عبارة كامبل بنرمان، رئيس الحكومة البريطانيّة، الذي دعا -آنذاك- إلى هذا المؤتمر قبل الإجهاز على «الرجل المريض»، وزوال الحُكم العثماني في الحرب العالميّة الأولى، خوفا من أن تتحرّر تلك المنطقة «الغنيّة بالمقدّرات والثروات والقدرات الفكريّة»، التي «تمتلك كلّ مقوّمات الوحدة لتكون دولةً واحدةً تُهدِّد مصالحنا الاستعماريّة»، بحسب العبارات الواردة في البيان الختامي الصادر عن مؤتمر لندن المذكور، وذلك بتقسيمها إلى ما يشبه الدول، وفرْضِ استقلال بعضها عن بعض (لا عن الدول الاستعماريّة). وقد تزامَنت تلك القرارات مع عثور الدول الاستعماريّة الأوروبيّة على حلٍّ للتخلّص من يهودها بوضْعهم قَسرا في «وطن» لهُم، هو تلك الدولة الفاصلة، وجَعَلَتْهُ في قلب المنطقة العربيّة بين سوريا ومصر، لتقويض كلّ أمل في قيام وحدة بينهما (بعد إحباط محاولة محمّد علي باشا توحيدهما)، وبالتالي بين البلدان العربيّة.
على الرّغم من أنّ اليهود ليسوا، ولم يكونوا طوال تاريخهم، بحاجةٍ إلى وطن، فإن وطنهم منذ الأزل هو المال، كما يقول منظِّر «اليهود والعالَم والمال» المفكّر الصهيوني جاك أتالي في كتابه الضخم «Les Juifs, le Monde et Argent»، لذا المال وطنهم إلى الأبد، ولا يستبدلون وطنا آخر به بتاتا.
غير أنّ تلك الدولة التي سمّوها «إسرائيل» لا تستطيع بمفردها إخضاعَ الفلسطينيّين، فساعَدها في ذلك البريطانيّون والفرنسيّون ثمّ الأمريكيّون. كما أنها لا تستطيع بمفردها إخضاعَ شعوب المنطقة العربيّة إن لم يؤازرها في ذلك بعض حكّام هذه الشعوب ممَّن وُضِعوا في مناصبهم تحديدا من أجل القيام بهذه المهمّة، فجرى الاتفاق بين الجميع وفقا للمُعادَلة الآتية: تتولى إسرائيل إخضاع الفلسطينيّين أو قتلهم على أن يتكفّل حكّام عرب في بلدانهم بإخضاع (أو قتل) كلّ مَن يؤيّد أو يُساعِد الفلسطينيّين لقاء بقائهم في مناصبهم، كيلا يكون مَصيرهم العزل أو القتل (كاغتيال الملك فيصل بسبب تأييده فلسطين والمسجد الأقصى).
وحينما يأتي المحتلُّ الاستعماري الاستيطاني ليستولي على أرض شعب، يستولي أيضا على الشعب نفسه، فيستعبده أو يقتله بعد أن يجرّده من قيَمِه الإنسانيّة وينسبها إلى نفسه. وكما يأخذ أرضه يأخذ أيضا قيَمه، فيُصبح الزيتون واللّيمون الفلسطيني إسرائيليين، والموسيقى والألحان الفلكلوريّة، وحتّى الغِناء والدبكة الفلسطينيّة يستولي عليها، ويزعم أنّها إسرائيليّة، ويستولي على المسجد الأقصى، لأنّه كان في زمنٍ خارج التاريخ هَيكلا يهوديّا. حتّى الفلافل والحمّص بطحينة لا تعود فلسطينيّة، بل نُشاهِدها معروضةً في المحلّات الكبرى بأوروبا على أنّها مُنتجاتٌ غذائيّة إسرائيليّة. وحين تتباكى الصهيونيّة على أيّ شيءٍ من المبادئ والمشاعر الإنسانيّة، فأعْلَمْ أنّها تريد القضاء عليه. وحين تريد ارتكابَ جرائم ضد الإنسانية لا تتبناها، بل تنسبها إلى ضحاياها، وتَزعم أنّهم هُم مَن يقومون بها. فمثلا تتّهمهم بالإرهاب إذا قاوموها، لكي تقوم هي بالإرهاب، وتتّهمهم بقتل الأطفال لكي تقتل هي الأطفال. كلّ شيء تتّهم الصهيونيّة به مُقاوميها يعني أنّها ستَفعله هي بحقّهم.
هوليوود وصناعة الكذب
منذ أوائل القرن العشرين أنشأ بعض اليهود أمثال وورنر وماير وفوكس مدينة هوليوود التي امتلكت صناعة السينما والإعلام، واختصَّت بإنتاجِ أفلامِ رُعاة البقر (الكاوبوي) من أجل قلْب الصورة رأسا على عقب، وجعْلِ الغازي الأوروبي هو الحضاري، وأصحاب الحضارات الراقية هُم الوحوش، وراجَ نِتاجُها على صعيدٍ عالَمي، فصدّروا تلك الصورة إلى بلادنا، وجَعلونا نُعجَب بالمُثل العليا والإنسانيّة لدى أبطال هذه الأفلام (جون واين، وغاري كوبر، وهنري فوندا..)، وزَرعوا في رؤوسنا، جيلا بعد جيل، صورةَ «الهنديّ الأحمر» المتوحّش. ومعلومٌ أنّ المشروع الصهيوني كان قد بدأ في تلك الفترة بالضبط ينتقل إلى حيّزِ التنفيذ.
منذ ذلك الوقت وصناعة الكذب هي دين السينما والإعلام وديدنهما، بغيةَ إسباغ صفة الحضارة على الغرب الاستعماري، ونزْع تلك الصفة عن شعوبنا العربيّة والإسلاميّة، وشعوب آسيا وأفريقيا كافّة، وحَصْرها في أوروبا «الأنوار»، علما بأن عصر الأنوار الأوروبي بالذات كان كالقمر بوجهَيْن: وجهٌ مُضيء في أوروبا، ووجهٌ كالِح معتِم حمَلَ إلى باقي العالَم الهمَّ والغمَّ والاستعمارَ والاستعباد. وَجهان، على الرّغم من تناقُضِهما، يتكاملان لِما فيه مصلحة الداخل الأوروبي الاستعماري.
صلابة النظام الرأسمالي ووحشيته
تطوَّرت صناعةُ الكذب، التي لم تعُد أوروبيّة الاسم، بل غدا اسمها «صناعة الكذب الغربيّة» بعدما توزُّع الأوروبيّون بين أوروبا وأمريكا، فاتّخذت تلك الصناعة شكلَا ما سُمّيَ «إعلام وصحافة»، برَّر وجودها في أوّل الأمر على أنه «سلطة رابعة» في وجه السلطات الثلاث، لكنّها سرعان ما تحوّلت إلى بوقٍ لتلك السلطات، وداعمٍ السلطات الاستعماريّة، باستثناء قلّة منها بقيت ضعيفة التأثير ومهمَّشة. فعلى سبيل المثال: في الشهر الماضي جرى في إسكتلندا حفلُ توزيع جوائز في صناعة السينما، وكانت تغطّيه «بي. بي. سي نيوز» للتلفزة، وألقى عددٌ من الفائزين كلماتٍ أيّدوا فيها فلسطين، وشدَّد أربعةٌ منهم على ضرورة الوقف الفوري للإبادة الجارية في غزّة وباقي الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. لكن حين نَشرت «بي. بي. سي نيوز» تسجيل ذلك الحفل على الإنترنت، حَذفت هؤلاء الأربعة من البثّ، وحَذفت الرسائل التي وجّهوها، ولم يلحظ أحدٌ هذا الحذف. لكنّ الذين حضروا حفل التتويج لاحظوا عندما شاهدوا الفيديو أنّ تلكم الرسائل المؤيِّدة فلسطين قد حُذِفت بأكملها.
ووقع انقسام بين متمسّكين بمبادئ الإنسانيّة والخَلق الحَسن، وبين مَن يريدون تغيير وجه العالَم الإنساني تغييرا جذريّا، وقد واتتْهُم الوسيلة الفضلى لذلك، ألا وهى «الذكاء الاصطناعي»، فالأوروبيّون وامتداداتهم في الإسرائيليّين والأمريكيّين لا توحّدهم صلابة النظام الرأسمالي ووحشيّته الآخذة في إفقار البشر أكثر فأكثر فقط، بل يوحّدهم أيضا احتكارُهم سائر تكنولوجيّات الذكاء الاصطناعي، واستخدامها في استعباد العالَم، وإخضاعه للرقابة الشاملة والصارمة، وتمزيق شرعة الحرّيات وحقوق الإنسان، بما فيها حقّ تقرير المصير وحريّة التعبير، تماما مثلما توقَّع مفكّرون أمثال ألدوس هكسلي وجورج أورويل وميشال فوكو ونعوم تشومسكي. لكن كيفما كانت نهاية حرب غزّة، وأيّا كان الشكل الذي ستؤول إليه هذه الحرب، سيبقى العالَم مقسوما، وستستمر الحرب بين مُعسكرَيْن واتّجاهَيْن: اتّجاهٌ نحو استعباد العالَم بقيادة الصهيونيّة العالَميّة أو عَوْلمة الصهيونيّة، أي حُكم العالم بديكتاتوريّة المال، واستبداد الذكاء الاصطناعي ببرامج الرقابة، ولا سيّما برنامج نمبوس «Nimbus» الذي أنتجته «غوغل» من أجل إسرائيل التي تَستخدمه في مراقبة الفلسطينيّين، حتّى داخل منازلهم، ضد اتجاه تحرير البشرية من نير ديكتاتوريّة المال والتفلُّت من براثن العبودية الجديدة.
* مترجم وباحث لبناني مُقيم في فرنسا
* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية