قد نستطيع حبس دموعنا، ولكن لا نستطيع كبح جماح أحزاننا التي تلوي بوجداناتنا بدون استئذان، فلم يكن خبر وفاة سمو الأمير نايف سوى زلزال هز جدران المجتمع، فهو ذلك الصرح الأشم الذي يخطو خطوته فتستقر الأرض ويأمن كل في مخدعة، ويفر كل فأر مذعور إلى جحره.

هكذا كان الرجل الدولة، الرجل الدين، الرجل العلم، والرجل الأب في كل الأحوال. لقد فجعنا جميعا في مصابنا الجلل، وقد نختلف عن أى إنسان على وجه الأرض في مصابنا، لسببين مهمين، أولهما هو أننا نعيش كمجتمع سعودي في مجتمع أبوي، ونرى في هذه الأسرة الكريمة آباء لنا نشأنا في ظلالهم وتربى وجداننا على الحب قبل الولاء نظرا لسسيولوجيا تاريخية المكان وأنثربولوجيته، وإذا تتبعنا هذه السمة فسنجدها - وهي الولاء الأبوي – متجذرة في شخصية ابن الجزيرة العربية وابن الصحراء منذ فجر التاريخ، وذلك يرجع إلى عوامل بيئية وتاريخية ونفسية، فلا أنسى لقائي أنا وبعض المثقفات بصاحب السمو الملكي والأب الرحيم الودود سلطان بن عبد العزيز، حين التقانا نحن المثقفات في القاهرة في مناخ تسوده الأبوة واللين قبل كونه سلطان الاسم والمكانة، إلا أني عن نفسي لم أشعر إلا بوالد حنون ودود قبل كل شيء، ثم يسألنا واحدة تلو الأخرى عن كل ما يجول بخاطرنا ويناقش كل شيء بإقناع واقتناع، ولذلك كان خبر وفاته، ووفاة سمو الأمير نايف هو قدر قد حل على بيوتنا جميعا لينتزع واحدا منا. فلا نقول إلا "إنا لله وإنا إليه راجعون" ونتسلح بالصبر عسى الله أن يمن علينا به.

وثانيهما؛ هو فقدان رجل عظيم في بلد عظيم مستقر بفضل الله ثم بجهده، في حين أن العوالم من حولنا تزمجر وتهدر. والموت يزأر والرقاب تطير، كل ذلك بسبب الاختراق الأمني دون غيره لهذه البلاد أو تلك.

فلا نعدد إنجازات سمو الأمير نايف على مستوى الدين أو الدولة من إنشاء جامعات وجوائز دولية وتدعيم الدراسات في الكتاب والسنة، وعلى الجانب الآخر نجد الحزم والقوة واللذين لابد أن يكونا من سمات الحاكم الذي يحتم عليه واجبه إحقاق الأمن والأمان، فكيف كانت غزوة القاعدة وكيف تصدى لها!! ومن قبلها دافع عن بيت الله الحرام في بداية توليه وزارة الداخلية حين اعتداء سليمان العتيبي عام 1979 حتى أصبحت المملكة في غضون أشهر معدودة من أكثر بلاد العالم أمنا وأمانا، نتاج سياسة ما يسمى بـ "المناصحة" وفتح باب الحوار مع الشباب المغرر بهم، فأسس ونشر ما يسمى بثقافة الأمن لرجل الشارع قبل المختصين، فأصبحت المملكة آمنة مستقرة حين تموج الدول من حولها، ويشهد على ذلك الحجيج وزوار بيت الله الحرام، حيث أصبح الحج والعمرة متعتين دون عناء وعبادتين في نزهة خلوية رائعة المعالم.

لم تكن هذه السمات غريبة أو مكتسبة على شخصية سمو الأمير، فهو رجل بدوي، وللرجل البدوي سمات فطرية سبغتها سمات الطبيعة التي نبت فيها، فمن دراسات عديدة أقمتها في رجل الجزيرة وشخصيته، وجدت أن طبيعة المكان تكسبة ضدين يجتمعان ولا يتنافران فتصبح معجزة من المعجزات في علوم الفيزياء حسب الحتمية الفيزيقية في تنافر الأضداد، وهي من خواص رجل الصحراء، هاتان السمتان هما توحد الماء والنار في ذات اللحظة، فهو يعشق النار ويأنس بها ويدعو بها ضالة الطريق ويهتدي بها في سيرة، ومُطفئ النار رجل منبوذ يسبه بها رجالات القبلية، ويعشق المطر في ذات اللحظة فهو من يرتحل إليه ويهيم عشقا وراءه في أي مكان يسمع عنه، ولخرير المياه ونقر حبات المطر على النافذة سحرهما في آذان العرب حتى يومنا، فأصبحت الشخصية مزيجا من هذين الضدين، فـ"عجيب جامع الضدين... في شخصه نار ومطر".

تلك هي الشخصية البدوية العربية التي تتسم بالقوة واللين، بالحب والحنو، والسيف لمن خرج عن تابوه الدين والقانون وسلطان الأبوة الحنونة في أغلب الأحيان، تلك هي أدوات القائد الداهية، وللعرب دهاة، و"الداهية" وصف عربي يختلف معناه اللفظي عن معناه الاصطلاحي الذي هو أقرب منه إلى الفخر والشرف، حيث يطيب للأذن العربية أن يقال عن صاحبها إنه من دواهي العرب، ولعلي أقول إن لدينا بالمعنى المشرف كثير من الدهاة العرب، المفكرين، المحبين لوطنهم، لأهلهم، لدينهم، لشرفهم، لعزتهم، لكرامتهم والتي تجذرت فينا.

لم يكن سمو الأمير نايف إلا رجلا بدويا عريقا يتسم بكل سمات الرجل الذي امتدت جذوره في عمق التاريخ، كيف لا وهو من عبدالعزيز صاحب الرأس التي هزت العالم. ولذلك كانت الأعين شاخصة والنبضات متسارعة والأعناق مشرئبة والوجوم يعلو الملامح "نتابع جنازة المغفور له بإذن الله" دون ذرف دمعة واحدة لأن الخطب كان جللا، لأنه قد أتى على كل دمعة وكل قطرة ماء في عروقنا، لأننا فجأة فقدنا فينا الأب ورجل الدولة في الوقت نفسه، ولكن عزاءنا هو أن هناك خير خلف لخير سلف بإذن الله.