في قصص القرآن لطائف وإشارات، لا تملك معها إلا أن تقف متأملا بعين الناقد البصير أحيانا، وبعين الباحث المنقب أخرى. أبحث في طياتها عن جواهر الحكمة وأخرج منها أحيانا بعشرات الأسئلة، منها ما أصل معه إلى جواب شاف لحيرتي، ومنها ما يرفع مستوى السؤال بحثا عن اليقين أو تعاملا مع الشك.
المقابلة بين سورة النمل وسورة الفيل تأخذنا بعيدا في كثير من الاتجاهات، بدءا من طول السورة وتنوع المحتوى، فسورة الفيل من صغار السور، وسورة النمل تمتد على مدى ثماني صفحات ونصف الصفحة.
تسهب سورة النمل في سرد قصص سليمان النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الذي يمثل قمة الملك في التاريخ، فهو صاحب الدعوة بأن يهب الله له ملكا لم يهبه أحدا من العالمين. وعلى بعد جغرافيا الزمان والمكان فقد كان أبرهة ملك اليمن بكل ثرائها الطبيعي والبشري رغم أنه لم يكن من أبنائها.
حكم سليمان الأرض والريح والإنس والجن والحيوانات طائرها وزاحفها ومن يمشي على أربع! وحكم أبرهة العباد والبلاد وشارف على أن يحيل اليمن إلى قبلة تحل محل الكعبة. فيمنه خصيب كثير الماء لا ينقصه شيء لأن يحل محل تلك الكعبة التي وضعت في وسط الصحراء بلا ضرع ولا زرع! لقد كان لكل من سليمان عليه السلام وأبرهة ملكا يستحق الإعجاب بحق ويسمح للعجب أن يدخل النفس لتظن معه أنها تملك الأنفس فضلا عن ملكها للأشياء.
امتلك أبرهة جيشا جرارا لا يقهر ودعما من اثنين من أعظم ملوك الأرض يومئذ، النجاشي ملك الحبشة وجوستانيان قيصر الروم (صاحب العلامة الفارقة في تاريخ القانون الوضعي)، وعلى عظمة هذا الجيش لم يكن ليقارن بجيش سليمان الذي سخر له كل شيء حتى لم يكن ليقف أمامه جيش ولا حتى جيش بلقيس التي حكمت اليمن قبل أبرهة بأزمنة مديدة. فسليمان كان يختصر هو وجيشه مسافة الشهر في يوم إذ تحملهم الريح حيث شاؤوا مما يمكنهم من مباغتة أعدائهم. أما قوة أبرهة والدعم الذي لديه وسيطرته على مملكته، جعلت منه طاغية يظن أن جيشه لا يقف أمامه شيء خصوصا أن من عتاد جيشه "الفيل" ذلك السلاح الفتاك الذي لم تعرفه جزيرة العرب من قبل. وأما سليمان فعلم أن مابين يديه من ملك إنما هو وديعة يري بها ربه ما يفعل أيصبر أم يشكر.
عمر سليمان بيت المقدس استجابة لأمر ربه وجعلها قبلة للناس، بينما عمر أبرهة القليس في اليمن وحاول أن يجبر الناس على أن تكون قبلة لهم. أما سليمان فبقيت قبلته التي وضع قبلة للعالمين شرقا وغربا حتى تغيرت إلى مكة بالنسبة لنا معشر المسلمين. أما أبرهة فإن هذه القليس لم يكن منها وقد ذهبها وزينها خير ما تكون الزينة إلى أن أصبحت غصة أكبر من غصته بأصل المسألة أن الناس تحج إلى مكة لا إلى اليمن.
حبا في سليمان واستجابة لأمر سليمان تم إنشاء بيت المقدس وتعلقت به القلوب والأرواح حتى إنا نتنازع عليه حتى يومنا هذا. أما القليس فعلى الرغم من نظام الإرهاب السياسي والعسكري الذي اتبعه، فقد كانت الطامة حين اعتدى أحد المتحمسين للكعبة على القليس بأن تبرز فيها وشوهها، فما كان من أبرهة إلا أن قرر أن يهدم الكعبة ويتحرك إليها بعدته وعتاده ليجعلها وأهلها عبرة لمن يعتبر.
عبثا حاول الفيل أن يقنع أبرهة أن المسير صعب وأن البلوغ مستحيل وأن صوت الضمير يقول إن القداسة لا تمس، إلا أن أبرهة بدكتاتوريته التامة لم يقنع إلا بإرادة التحطيم للكعبة لينتقم للقليس، فكانت النتيجة أن انتهى هو وجيشه تحطما على أعتاب التكبر وعدم الاستماع للآخر.
أما سليمان، فعلى عظمة ملكه وعنفوان جيشه لم يملك إلا أن يتوقف مستمعا لمناجاة تلك النملة الضئيلة التي وقفت بكل شجاعة أمام سليمان وعبرت عن رأيها في حماية قومها.
هذه النملة أو الأرضة هي ذاتها التي أكلت عصا سليمان ودلت الإنس والجن على موته. هذه النملة لم تنظر لضآلة حجمها بل لعظم دورها، وسليمان لم يهمل رأيها بل طبق عليها معياره الموضوعي في الاستماع فاستمع إليها كما استمع للهدهد ولبلقيس ولمعاونيه. إنه نموذج لتعددية تستحق أن يخلد ذكرها أبد الدهر.
تغريدة: حين تخطئ الطريق إلى المجد فإنك ستسقط في مزبلة التاريخ!