اتصلت معرفتي بالعلا بتفاصيلها قبل أكثر من خمسين عاما حين كان زميلنا حسن جمعة عيسى - رحمه الله - يحدثنا عن العلا وتاريخها وواقعها، في زمان كان الضوء يتركز على المدن الكبيرة والكثيرة الحركة، وليست تلك القابعة على تخوم الصحراء وأحضان الجبال وجال الأودية، قبل أن تقفز كل بقعة في بلادنا إلى دائرة ضوء العالم كله، وكانت البداية عندما وصف العلا الأمير محمد بن سلمان في 2016 بأنها خزان بيانات تاريخ العالم القديم، ولعل الذين سمعوا هذا الكلام وقتها لم يتخيلوا على وجه الدقة مقاصد هذا الكلام ومراميه، ولكن العلا اعتبارا من هذا التاريخ بدأت لتكون أكثر من حكاية تروى، وأعظم من موقع تاريخي وأثري، وأجمل وأثمن من مجرد واحة نخيل وجنة ثمار، وبعدما أنشئت الهيئة الملكية لمحافظة العلا في 2017 ضمن مخرجات رؤية 2030 اتجهت إليها دائرة الضوء وصارت جزءا من اهتمام السعودية والسعوديين لتصبح محط رحال العالم أجمع باحثين ومؤرخين ومستكشفين وطلاب معرفة وسياحة وتجديد حياة.

حين تمشي في أرض العلا على الحصى الملساء المستديرة الملونة كحصباء الجواهر تشعر كم لامست أقدام الناس وسنابك الخيل وأخفاف الإبل هذه الأحجار حتى استدارت، وتشعر أن كل حصاة لو استنطقتها لحدثتك أحاديث القرون الغابرة، فحيثما وطئت تلامس أقدامنا أقدام الإنسان القديم وهو يسوق الحيوانات البرية إلى المصائد الحجرية الضخمة منذ أكثر من 5 آلاف سنة من غرب حائل وتيماء إلى قرب حرة خيبر، وعلى هذه الأرض تشكلت أحجارها أيضا من أقدام العابرين من الدولة المعينية والقوافل الترددية العابرة من الشمال والجنوب، ومن أبناء مملكة دادان ولحيان قبل 2700 سنة، وقبائل الأنباط الذين كونوا مملكتهم منذ 2300 عام، وعلى هذه الأرض دارت معاركهم مع الروم، كما عبَرها الرسول صلى الله عليه وسلم وجيشه في مسيره للقاء الروم في غزوة تبوك، وبين تشكيلاتها الصخرية البديعة وضفاف أوديتها وواحاتها دارت قصص الحب التي نقلتها الأساطير والأشعار وآثار قصر البنت التي دفعت حياتها ثمنا لحبها أيام الأنباط، مرورا بالعذريين الذين نشروا العفاف في قصص حبهم، ولا حاجة لاستحضار قصص التاريخ، فمبجرد أن تتحدث إلى صالح مسعود العذري وهو يقود السيارة في وادي القرى حتى تنثال عليك قصص عروة بن حزام وعفراء، وجميل بن معمر وبثينة وغيرهما وتعيشها حقا بعيدا عن المخيال الشعري والوجداني العربي.

العلا ليست مجرد مرافق سياحية ووجهة تستقطب السياح من داخل المملكة وخارجها، وليست مواقع أثرية وتراثية وطبيعية فحسب تحتاج إلى صون وحماية، ولا هي أماكن خلابة بتشكيلاتها الصخرية المدهشة وواحاتها الغناء ومياهها المتدفقة فقط، بل هي كل هذه وأكثر، وإن شئت قلت: هذه قمة جبل الجليد، وماتحت هذه القمة تاريخ وعوالم وأمم مرت وأمم باقية عبر ألوف السنين، وقصة حضارة الإنسان وثقافته.


كثير من الفعاليات التاريخية والتراثية تسيء إلى ما تحتويه بلادنا الغنية والثرية بتاريخها وآثارها وتراثها أكثر مما تحسن، فهي تحفظ التاريخ محنطا وتعرضه ميتا منفصلا عن الإنسان المتجذر فيها، والمستمر في حياته إلى زمان الناس هذا، ضمن سياحة ثقافية سطحية، وهذا يمكن قبوله فيما لو أقيم نشاط في دولة عربية أو أجنبية عن التراث والتاريخ والأدب العربي، أو عن الحضارات التي نشأت وانتقلت من شبه جزيرة العرب، لكنها خطيئة ترتكب في حق وتاريخ إنسان هذه البلاد، لأنه تاريخ حي، وتاريخ إنسان ما زال أحفاده يعيشون في الأرض نفسها وذاكرة الخلية ما زالت في جيناتهم، ولسان حالهم يقول: «تلك آثارنا تدل علينا».

أنت لا تزور العلا سائحا متفرجا، ولا تعيش تجربة الزائر، وإنما تعيش التاريخ الحي، تعيش واقعا عاشه أقوام سابقون، تقف أمام جبل عكمة أكبر مكتبة مفتوحة للنقوش الصخرية، تقرأ فيها الحياة في المنطقة خلال عصور الدولة الدادانية واللحيانية والازدهار الذي كان وقتهم، وترى في هذه النقوش المبكرة كيف تطور الخط العربي منها وفي هذا المكان، وفي تيماء تدركك الرهبة وأنت تقف على بئر هداج العظيمة، وتقرع أذنيك أصوات سبعين محالة خشبية متصلة بالغروب من البئر المصطخبة بمائها، وتقتحم عينيك صورة سبعين جملا ضخما بهديرها ورغائها تسحب الغروب لتصب المياه في المسارب الزراعية، وعلى مزرعة مقابلة للبئر ترى عملا فنيا حيا يجسد الملك البابلي نابونيد بعظمته بعد أن ترك بابل وأقام هنا 10 سنوات، كما ترى ملكة العرب شمسي وهي تستنجد بالقبائل بعد أن رفضت الانصياع للملك الآشوري قبل أكثر من 2750 سنة.

وعندما تدخل قصر ابن رمان لا تشعر أنك تزور قصرا أثريا تم ترميمه، لكنك تعيش تفاصيل الحياة اليومية في القصر من خلال الفريق التمثيلي الذي يجسد الأمير عبدالكريم بن رمان، ولا تكاد تفيق من هذه الأجواء حتى تغوص حقيقة في التاريخ وتعيشه، حين تجد الشيخ نهار بن عبدالكريم بن رمان ينهض من مجلسه ويغمرك ترحيبا صادقا وكرما أصيلا، ويتجول بك في أرجاء القصر شارحا ما كانت تحتويه هذه الجدران وما خلف الأسوار، وتسمع في ثنايا الشرح صهيل الخيل في ساحة القصر والقهوة التي كانت تدور في مجلس ابن رمان، وعرفت لحظتها حقيقة معنى البيت الذي نحفظه ونردده كالببغاء «ياضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل».

فإذا جئت إلى خيبر ووقفت على إحدى مطلاتها ترى الجبال وعليها آثار الحصون وحولها واحات النخيل تتذكر أحداث التاريخ التي درسناها، ثم تعيشها لحظة بلحظة وحركة بحركة، كما تعيش في مزارعها الحياة التي أدركناها زمنا طويلا، وترى وتسمع صوت خرير الماء المتدفق من المسارب والدبول إلى وسط المزارع، قبل أن تطغى على حياتنا الحضارة الإسمنتية.

من العلامات التي أستشهد فيها بذكاء اختيارها إعلاميا وتسويقيا ومعرفيا اختيار كلمة «طنطورة» في شتائها، فكل من سمع هذه الكلمة من خارج العلا استوقفته لغرابتها، ولأنها لم تقرع أذنه من قبل، وكان لا بد أن يتساءل عنها ويقوقلها، فتأخذ حيزا من وقته وتفكيره، ولأن السؤال هو بوابة المعرفة فإن الطنطورة تقوده إلى المزولة وساحة الدرب والانقلاب الشتوي والنظام الزراعي الصارم المتقن في العلا ثم تقودك هذه إلى إنسان العلا الحاضر، وهم يقودونك إلى كل أحداث وشخوص التاريخ.

تداعى إلى خاطري الحديث النبوي «ليس الخبر كالمعاينة» وقول العرب «ليس من رأى كمن سمعا» فمهما قرأت في الكتب أو مرت عليك الأخبار المرئية والمسموعة أو شاهدت في وسائل التواصل أو خبرك عنها زائر أو حتى من أهلها فستجد أن البون شاسع والفرق كبير بينها وبين ما تلمسه بنفسك وتراه بعينك وتعيشه بجوارحك واقعا حيا، فكل شيء أو موقف يشدك إلى أن تعيش تاريخك وأرضك بعيدا عن تجربة الزائر، فوداد مثلا لا تحدثك حديث المرشد السياحي فقط، ولكنك تشعر معها حين تروي بحرقة قصة غزو الروم للأنباط في الحجر بأنها امتداد لإنسان هذه الأرض وتتمنى معها وهي تروي القصة أن لو انتصر الأنباط على الروم الغازين.

مشاريع العلا لم تكتمل بعد، وآثارها لما تكتشف بعد، والاكتشافات التي ظهرت نتائجها حتى الآن تنبئنا أن التاريخ العربي منذ فجر التاريخ وتاريخ الإنسان على هذه الأرض ستعاد كتابته بطريقة تصحح كثيرا من الأوهام السائدة.