«إنهم مطمئنون إلى أنه لا أحد يقرأ».

بهذا التعليق الصادم يبرر روائيون وقاصون ومشتغلون بالسرد ما أسموه بتنامي ظاهرة طباعة كتب «روائية» هزيلة الجودة والقيمة على مستوى المحتوى في وقتنا الحالي، مشددين على أن مبررات كثيرين لاقتحام عالم كتابة الرواية لا تنبع فقط من الموهبة والكفاءة وحدهما، بل تعود إلى أسباب أخرى من بينها السعي والبحث عن الوجاهة الشخصية، والحرص على الحضور في المشهد الثقافي والأدبي، وقبل ذلك والأكثر أهمية منه هو اطمئنان المؤلف إلى أنه «لا أحد يقرأ»، حتى عند توزيع تلك الروايات كإهداءات، إضافة إلى عدم نقد الرواية، إما لعدم جدارة المنتج للكتابة عنه، أو لخوف الناقد أو الكاتب الصحفي من خسارته للمؤلف إذا ما أشار لمواضع الخلل في عمله، علاوة على مشكلة عدم قبول المؤلف للرأي أو النقد، ولجوء كثيرين إلى مجاملة ومدح المؤلف والمنتج لاعتبارات شخصية غير موضوعية، وهو ما وصفوه بعدم الوعي الثقافي، مشددين على أن الثقافة ليست إصدار كتب، وليست في تبادل المدح كما يحصل حاليًا.

المدح والمديح


يؤكد عضو مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي الأسبق، القاص والروائي جعفر عمران أنه منذ عام 2000، بدأ الوهج في الكتابة الروائية لعدة أسباب من بينها الحضور الإعلامي البراق للرواية، والذي لا يزال مستمرًا حتى الآن، وتحديدًا مع صدور رواية «بنات الرياض» للروائية الدكتورة رجاء الصانع والصدى الواسع الذي وجدته.

وقال «كثير من الشباب يغريه الآن أن يصدر رواية، ثم يستعرض بروايته في شبكات التواصل الاجتماعي ويحظى بالمدح والمديح فيها من أناس لم يقرأوا الكتاب حتى لو حصلوا على نسخة منه كإهداء مجاني من باب المجاملة، حيث يكتفون باستعراض النسخة التي حصلوا عليها».

وأضاف «حتى القلة التي تقرأ ليس لديها القدرة على التعليق على الرواية فتنتهي الأمور إلى المجاملة، وهذا يشجع على طباعة الكتاب واستعراض المنتج في شبكات التواصل الاجتماعي».

وركز عمران على أن ثمة ظاهرة موازية لا تقل خطورة تتمثل في المجاملة الشديدة التي تحظى بها الكاتبة المرأة من بعض الكتاب والنقاد والإعلاميين، وقال «المديح الظاهر للكتاب قد يكون سببًا في زيادة طباعة الروايات الهزيلة، وهناك كثير من يقرأ لمنتج امرأة، ويتحدث بشكل غير مرض في غيابها في المجالس الخاصة، لكنه يجاملها في شبكات التواصل الاجتماعي».

واستشهد عمران بحادثة شخصية وقال «أسديت نصيحة لكاتب بعدم طباعة كتابه الذي هو عبارة عن مشهد مسرحي لا يرقى إلى عمل أدبي، وفوجئت بعد فترة بطباعته ككتاب روائي»، مضيفًا أن «الناشر لا يقرأ، فقط يحصل على نسخة pdf من الكاتب، ثم يحصل على «ردمك» الفسح، ثم يرسل الملف إلى الطباعة دون قراءة أو فرز، وذلك في استسهال شديد، والهدف هو الحصول على المبلغ المالي».

وعزا عمران أسباب تدني الأعمال الروائية الحالية إلى أن الجيل الحالي يرى أنه متعلم وعنده ثقة في منتجه الروائي فينتجه دون عرضه على المثقفين المتخصصين ممن يوثق برأيهم، ودون أن يستشير قبل النشر، وعند نصحه بعدم النشر لا يلتزم بذلك.

وعن مصير تلك الأعمال التي يقال إنها روائية، قال «التاريخ جدير بفرز الجيد من الرديء، فليس كل توهج في المشاعر والأحاسيس والطاقة عند عمر الـ20 عامًا مثلا يصلح لأن يتحول إلى شكل كتابي وإنتاج روائي».

غيرة ضرائر

أبان عضو مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي سابقًا عبدالجليل الحافظ أن ازدياد ما يسمى بـ«روايات» وكثرة طباعتها عائد لاعتبارات عدة من أهمها: استسهال الكتابة فيها، فكل من عنده حكاية ما، بل ما دون ذلك، يقرر أن يكتبها بأي طريقة كانت دون مراجعة لوجود الإبداع، بل إن القضية أصبحت عند البعض وكأنها غيرة ضرائر فلانة كتبت ليست أحسن مني أنا أكتب أيضًا، مؤكدًا أن عجلة الزمن، لن تبقي على شيء من هذا، ويبقى الأصيل فقط، وهكذا تذهب أسماء هؤلاء خلال سنوات قليلة.

وشدد على أن «المشكلة العظمى مع بعض هؤلاء الأشخاص الذين كتبوا مثل هذه الكتابات أنه ينظر إلى نفسه ويرى أنه روائي كبير وخبير في السرد، ويبدأ في الحديث عن تجربته الوحيدة «الفاشلة» ويجعلها نموذجًا يحتذى، والأنكى بعد ذلك أن يقدم نفسه كمدرب لفن كتابة الرواية، ويجد من يصدقه في ذلك».

عمليات ترقيع

يحمل الحافظ هذا التردي في وضع الرواية إلى دور النشر أيضًا، وهو يقول «تقع المسؤولية كذلك على عاتق دور النشر التي لا تراعي جودة ما يطبع عندها بقدر ما تراعي كم تكسب من المؤلف، بل إن هناك دور نشر تكسب أكثر ليس من الطباعة فقط، بل من خلال أنها تطلب مبلغًا إضافيًا لأنها ترسل العمل إلى شخص آخر يقوم بعمليات الترقيع للنص بحيث يظهر بشكل مقبول نوعًا ما، فيعدل في الصياغة، ويضيف بعض الرتوش للعمل، وذلك بمقابل مادي، وطالما أن هناك من يدفع، هناك من يطبع ويرقع».

ولفت إلى أن «شبكات التواصل الاجتماعي ساعدت في انتشار ما يسمى بـ«الروايات» -وأقول روايات من باب الشيوع لا الحقيقة- وهناك من يصفق لهذا النتاج، لأسباب عدة، أهونها: الصداقة، والعلاقات الاجتماعية، أو كما صفقت لك ستصفق لاحقًا لي»، مبينًا أن «القارئ الجيد عندما يقرأ لهؤلاء في البدايات، ومع استمرار قراءته للنماذج الروائية الراقية سيعلم أنه خُدع في هذه الروايات الهزيلة».

النثر دون قواعد

يذهب القاص، الروائي عبدالعزيز الجاسم أبعد في توصيف الأمر ويصل به إلى حد أنه يصنفه بأنه «متلازمة»، ويقول «قد تكون كتابة السرد متلازمة لدى كل من يمسك قلمًا، فبحسب ظن بعض الكتاب أن مجرد اصطفاف الكلمات سيصنع كتابًا، فالشعر كلون من ألوان الأدب يصاغ حسب قوانين مسنونة، وإن شذ بعض الشعراء عنها مؤخرًا، إلا أنهم يبررون لذلك ويحاولون إظهار الصبغة الحداثية به، لكن بالنسبة للسرّاد، فالأمر بات أكثر خطورة، فكثير ممن يطلقون على أنفسهم لقب الروائي اليوم يكتبون النثر دون قواعد، بل دون بذل جهد لقراءة بعض الأسس الأبجدية التي تمكنهم من صياغة نص أدبي يمكن أن يُطلَق عليه اسم رواية، والأخطر من هذا أن يقوم هؤلاء بتقديم أنفسهم على أنهم مدربون في فن السرد ويعطون الدورات وورش العمل الخاصة بذلك، بل ويقنعون النشء الجديد في هذا المجال بسهولة الخوض فيه لمجرد حصول أحدهم على فكرة يمكنه الحديث عنها، وهذا بالطبع سيقوي من وجود أولئك الذين يبنون في عقول وأقلام الروائيين القادمين ذات الطريقة التي انتهجوها، لتكون تلك الطرق الجديدة هي المعمول بها في المستقبل».

قراءة الغث

يحاول الجاسم تلمس الحلول المتاحة لتحسين النتاجات الروائية المقبلة، ويقول «حينما نسأل عن أفضل الفرص لتحسين النتاجات القادمة فنحن سنقع بين مطرقة الكتّاب الحاليين الرافضين لأي نصيحة عدا تبجيلهم، ومطرقة القارئ الذي اعتاد على قراءة الغث مما ينتشر فتشبع به عقله، وبات يمقت قراءة السمين من النتاج الفكري والأدبي، لذا يحتاج المجتمع الأدبي ككل لوقفةٍ جادة أمام ما لا يضيف للأدب وفق قواعده، ويبني جيلًا يستطيع التمييز بين الحقيقي من تلك السرديات والمزيف منها، وهذا لن يكون سهلًا أبدًا في هذه الحقبة».

رفض الاستسهال

لا يمسك القاص، الروائي الدكتور ناصر الجاسم قلم النقد ويكتب به بقسوة، وإن كان يرفض ثقافة الاستسهال وخاصة في مجال الفن عامة، وليس السرد فقط، وهو يقول «عالم الفنون عالم احترافي، وصاحب الموهبة فيه عادة لا يستسهل الصنعة، بل يتجه نحو الدَرَبة، ونحو اتباع شغفه دائمًا، إذ إن التخلي عن هاتين الصفتين معناه الابتعاد عن سمة الإجادة والإتقان، وظاهرة ازدياد الكتابة الروائية في السعودية، هي نتيجة طبيعية لحركة التقدم والتطور التي نالت مفاصل الحياة كلها في السعودية الجديدة، سعودية البناء المستمر والاقتصاد القوي والانفتاح الاجتماعي، ونتيجة أيضًا لازدهار التعليم في داخل البلاد وللانفتاح القرائي الذي حدث من خلال بوابة الإنترنت، والذي أوجد حالة تثاقف ومحاكاة جميلة جدًا مع المنتجات الثقافية للآخر، وبشكل أخص المنتج الروائي الأوروبي والأمريكي، وكذلك المنتج الآتي من روسيا وشرق آسيا كاليابان وكوريا والصين، فالنهم نحو قراءة الرواية الذي يعيشه السعوديون والسعوديات، منحهم القدرة على خوض تجارب كتابة الرواية، ولأن الرواية فن حلو، وفن الساعة في العالم أجمع، اتجهوا إليه اتجاهًا طبيعيًا، ومنهم من أجاد ومنهم من أخفق، وذلك طبيعي في عالم الإبداع».

حالة نضج

لا يجد القاص السعودي حسن البطران غضاضة من ازدياد الأعمال الروائية ويراها في سياق مفهوم ومقبول، ويقول «إن الإبداع السعودي في شتى مجالاته الشعرية والسردية بكل أنواعها أخذ يتفوق ويزدهر مقارنة بالإبداع العربي بشتى مجالاته، وقد أخذ يقفز قفزات كبيرة لا سيما أن الرواية السعودية أخذت مساحة من حيث الإصدارات ومن حيث كتّاب الرواية، روائيين وروائيات».

وأضاف «مع الازدياد الكبير في الإنتاج الروائي والكتابة الروائية من الطبيعي أن يتحول هذا الكم الهائل إلى إفرازات ومعطيات تتطور من خلالها الكتابة الروائية السعودية، وهذا ما جعل الرواية السعودية في حالة تميز وفي حالة نضج وفي حالة ازدياد، وما دامت ـ من وجهة نظري الشخصية ـ الرواية السعودية وموضوعاتها ومجالاتها مفتوحة، خاصة بعد الطفرة التي حصلت في السعودية بشتى مجالاتها ولا سيما المجال الثقافي والإبداعي والأدبي فمن هنا لا غرابة أن تكون الكتابة الروائية في حالة ازدياد وفي حالة تمييز وفي حالة نضج وفي حالة ابتكار».

النقد السعودي

بين البطران أن الرواية السعودية صنعت بصمة تميزها عن بقية الروايات العربية، ولكنه رأى احتياجها إلى نقد متقدم، وقال «تحتاج هذه الكتابة الروائية السعودية إلى كمٍ واهتمام من النقاد، وخاصة النقاد السعوديين، فالنقد السعودي للعمل السعودي يعطيه زخمًا كبيرًا»، وتمنى أن يكون للنقد السعودي للرواية السعودية بصمة تتواكب بشكل أكبر وأكبر مع الرواية السعودية.

وتساءل البطران «لماذا يقوم النقاد غير السعوديين بنقد الأعمال الروائية السعودية أكثر بكثير مما يفعله النقاد السعوديون؟».

لماذا تزداد الروايات الهزيلة؟

ـ اطمئنان المؤلف إلى أنه لا أحد يقرأ

ـ غياب النقد الحقيقي وكثرة المجاملات

ـ اهتمام دور النشر بالجانب المادي دون المحتوى

ـ البريق الذي تجده الرواية التي تتصدر المشهد الأدبي حاليا

ـ عدم تمييز كثيرين بين الحكاية والقواعد التي تحتاجها الكتابة الروائية

ـ البحث عن الوجاهة الشخصية والتأثير الذي تركته وسائل التواصل

مبررات غير المعترضين على ازدياد الروايات

ـ هناك نهم قرائي فرضته زيادة التعليم والانفتاح القرائي من خلال بوابة الإنترنت

ـ هذا الازدياد نتيجة طبيعية لحركة التقدم والتطور التي نالت مفاصل الحياة كلها في السعودية

ـ الرواية هي فن الساعة في العالم أجمع والاتجاه نحو كتابتها أمر طبيعي

ـ الكم الكبير من الإنتاج لا بد أن يفرز الجيد والضحل، والبقاء سيكون حتما للجيد

النقد السعودي

بين البطران أن الرواية السعودية صنعت بصمة تميزها عن بقية الروايات العربية، ولكنه رأى احتياجها إلى نقد متقدم، وقال «تحتاج هذه الكتابة الروائية السعودية إلى كمٍ واهتمام من النقاد، وخاصة النقاد السعوديين، فالنقد السعودي للعمل السعودي يعطيه زخمًا كبيرًا»، وتمنى أن يكون للنقد السعودي للرواية السعودية بصمة تتواكب بشكل أكبر وأكبر مع الرواية السعودية.

وتساءل البطران «لماذا يقوم النقاد غير السعوديين بنقد الأعمال الروائية السعودية أكثر بكثير مما يفعله النقاد السعوديون؟».