يفتقد كثير من الأفراد المنتمين إلى مجتمعات تتسم بالأحادية الفكرية والانغلاق الثقافي، أو إلى جماعات مفرطة في كثافة انتمائها وتضامنها، إلى الهوية الفردية والإرادة الخاصة والاستقلالية الفكرية والحياتية، فالفرد في هذه الجماعات ما هو إلاّ لبنة أو طوبة في كيان الجماعة العام، ونسخة طبق الأصل من الآخر، سواءً في بنيته الذهنية أو نمط تفكيره أو مشاعره أو تصوراته أو مواقفه أو قراراته.

باعتقادي أن هذا النمط من الأفراد يسير تبعًا للبرمجة والتنشئة العفوية التي تشرّبها من بيئته المحيطة، ويهتدي في كل صغيرة وكبيرة بالمأنوس والمألوف والمرضي عنه، والمسلّمات الثقافية المتوارثة، والعادات الذهنية والسلوكية السائدة داخل منظومته الاجتماعية، فالحرام هو ما يحرّمه المجتمع، والحلال هو ما يحلّله المجتمع، والصائب هو ما يصوّبه المجتمع، والخاطئ هو ما يخطّئه المجتمع، وهكذا دواليك.

بل إن بعض الأفراد من فرط سيطرة روح الإمّعيّة عليه، وشدة تماهيه مع المحيط وذوبانه في المجموع، وهروبًا من الاستيحاش والشعور بالعدمية والعزلة أو الإحساس بالذنب أو التقصير أو الخروج عن جادة الحق والصواب، ورغبةً في الانسجام والحصول على الاطمئنان والاستقرار والشعور بالرضا والأمان وراحة الضمير، يعمد إلى محاكاة الآخرين، سواءً في اهتماماتهم أو سلوكياتهم أو ردود أفعالهم، حتى لو لم تعكس هذه التفاعلات بالضرورة ذوقه الخاص وإرادته الواعية واختياره الذاتي الحر.


ما أتحدث عنه هنا ليس ذلك النمط الذي يعمد إلى الاندماج في التيار العام، والالتزام بأدبيات وأعراف الجماعة، وتَمثُّل خصوصياتها، واستيفاء شروط البقاء فيها، عن وعي وإدراك وقصد، طمعا في الحصول على الامتيازات والتمتع بالفضائل والمنافع التي تقدمها الجماعة لأفرادها الأوفياء، وتجنبًا للمتاعب، وخوفًا من حالة النفي أو الطرد من عضوية الجماعة، وسلب شرف الانتماء إليها الذي يطال كل من يخرج عن سلطة الجماعة أو لا يفي بالتزاماته تجاهها، إنما أتحدث هنا عن ذلك النمط المنفعل (غير الفاعل)، الغائب عن الوعي والإدراك، الذي يعتبر الجماعة ومنظومة قيمها ومجالات اهتمامها ومسلّماتها المتفق عليها جماعيا دستوره الحياتي الموثوق، ودليله الإرشادي المُعتمَد، وإطاره المرجعي المقدس الذي لا تشوبه أي شائبة، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

شخصيًا، تعايشت في فترة من الفترات مع أحد هذه النماذج، وقد كان هذا الإنسان العزيز (حسب تشخيصي) متكيّفا ومنتظما بشكل مُطَّرِد مع الوضع الاجتماعي العام، ومستسلما لما هو قائم، ومذعنا لما هو مألوف بصورة عفوية لا واعية، ويسير ضمن إطار إدراكي وتركيب ذهني محكوم بالمسلّمات ومشبّع بالبديهيات الثابتة في المجتمع، فلا يمتلك رؤية خاصة ولا ذوقًا متفردًا ولا موقفًا مغايرًا، وكل ما لديه هو ذلك القالب الثقافي والمعرفي الناجز، والاستجابة العفوية العمياء، والانسياق البليد لانفعالات وأحكام وتصورات البيئة الاجتماعية السائدة، لدرجة أنه يمارس في كثيرٍ من الأحيان بعض السلوكيات، وتصدر عنه بعض الانفعالات الشخصية التي أعلمُ يقينًا أنها غير نابعة من إرادة حقيقية أو توجّه خاص، بل إنها ليست ذات معنى بالنسبة له، وليس لها أي محل من الإعراب في شخصيته، إلاّ أنه يمارسها تماشيًا مع السائد، وتحقيقًا للاتزان النفسي، وبحثًا عن الطمأنينة والإحساس بالرضا الداخلي، والشعور بالصحة والعافية والكمال التي يوفرها التماثل مع الآخرين، والتوافق التام مع إرادة الجماعة، والسير مع التيار العام.