في مشاهد شبيهة بالاحتجاجات التي تجتاح مدنا عربية كثيرة، وفي أواخر شهر سبتمبر الماضي، اقتحمت مجموعة من الناشطين الليبراليين الأميركيين قلب أميركا الاقتصادي في وول ستريت احتجاجا على زيادة الفجوة بين الفقير والغني بشكل متصاعد في الولايات المتحدة الأميركية، وعلى السيطرة الخانقة للشركات الكبرى على الديموقراطية في الولايات المتحدة. وكانت حركة "احتلوا وول ستريت" تعلق الآمال على اجتذاب الألوف من المحتجين، لكن الإقبال انتهى إلى نسبة أقل على نحو مخيب للآمال. واقتصرت تغطية الاحتجاجات على وسائل الإعلام الليبرالية فقط، ومقالة في صحيفة "نيويورك تايمز". لكن حركة "احتلوا وول ستريت" لم تكتب لها النجاة فحسب، بل سيطرت على مخيلة الجموع من الأميركيين الذين يشعرون بالمرارة. فقد أصبحت قوة قومية لديها إمكانية حقيقية للغاية لتعكير صفو السياسة الأميركية بشكل جوهري. وظهرت مجموعات أخرى في مدن متعددة في الولايات المتحدة، وبدأت الآن تنتشر عالميا، بما في ذلك لندن. وتقفز نقابات العمال الأميركية إلى المشهد، وتظهر التضامن مع حركة تفصح عن الكثير من الآراء العمالية المناهضة للشركات. ومن هنا أيضا يظهر الساسة الديموقراطيون الذين يستكشفون تحولا في الرياح السياسية. وتتعامل وسائل الإعلام الرئيسة الآن مع "المحتلين" على أنهم محتجون سياسيون لديهم شرعية، بدلا من كونهم مجموعة من الأشخاص من الذين لا يعرف أحد اتجاهاتهم السياسية بشكل محدد.

وقد نشر معهد "بروكينجز" للأبحاث في أكتوبر الماضي تقريرا قال فيه إن حركة "احتلوا وول ستريت" انتشرت الآن بين مئات الجاليات حول الولايات المتحدة. ومع أن أهداف الاحتجاجات لا تزال مبهمة إلى حد ما، وقدرة الحركة على الاستمرار غير معروفة، إلا أن هناك شيئا واحدا واضحا: الكثير من الناس غاضبون حول الأوضاع في الولايات المتحدة، وخاصة الحالة التي وصلت إليها السياسة الأميركية. المحتجون غير راضين عن عدم المساواة في توزيع الثروة، وعن الدور الذي يلعبه رأس المال في السياسة، وعن حقيقة أن أولئك المسؤولين عن الأزمة المالية لم يدفعوا ثمن الدمار والضرر الذي ألحقوه بالآخرين. قد يكون من السهل النظر إلى الاحتجاجات على أنها مجرَّد تعبير عن انفعالات أقلية صغيرة من الناس. لكن الاستطلاع الذي أجرته مجلة (تايم) الأميركية يبيِّن أن أغلبية من الشعب الأميركي لديها انطباع إيجابي عن الحركة.

وما هو أكثر أهمية من ذلك أن حركة "احتلوا وول ستريت" تبيِّن أن مواقف الشعب الأميركي بدأت تتغيَّر. ليست القضية أن ظروف الناس الموضوعية تغيَّرت فجأة. في النهاية، عدم المساواة في الدخل ليس أمرا جديدا. الفوارق في الدخل تتزايد منذ السبعينات من القرن الماضي. كما أن الركود الذي يعاني منه دخل الطبقة الوسطى ليس أمرا جديدا. فقد نما دخل الطبقة الوسطى بسرعة فاترة بين نهايات السبعينات من القرن العشرين وبداية هذا العقد، وما كان هناك من نمو أتى فقط لأن عددا أكبر من النساء دخلن سوق العمل. هذا الدخل إذا بقي ثابتا أو أنه تراجع. حالتا الركود الاقتصادي اللتان حدثتا مؤخرا تبعهما عودة البطالة، حتى إن الأزمة المالية الأخيرة والركود العميق الذي تلاها بلغ الآن عمره أربع سنوات.

المواقف تتغير بلا شك. لكن ما يبرز في ضوء كل هذه الأخبار الاقتصادية السيئة هو فكرة أن الولايات المتحدة لم تعُد مجتمعا يشجع على الفرص. هناك قبول غير عادي في الولايات المتحدة للفجوة الكبيرة بين الفقير والغني. نتائج الاستطلاعات التي جرت منذ سنوات تبيِّن أن هذا القبول كان نتيجة للاعتقاد القوي لدى الشعب الأميركي بأنك يمكن أن تكون فقيرا اليوم وغنيا غدا، إن أطفالك سيعيشون في مستوى أفضل من مستواك المعيشي، وأن أي شخص يعمل بجد ويبذل جهدا مقبولا ولديه قدر معقول من الموهبة يمكنه أن يحقق النجاح في الولايات المتحدة. هذه المواقف كانت تتعارض بشكل حاد مع المواقف في أوروبا، حيث يتميز الناس بأنهم أقل تفاؤلا حول دور الجهود الفردية وأكثر استعدادا لطلب المعونة من الحكومة لمساعدة الشرائح الأقل حظا.

الآن يبدو أن العديد من الأميركيين وصلوا إلى نتيجة أن التقيُّد بالأنظمة لم يعُد مجديا. وأصبحت أعداد متزايدة من الأميركيين تؤمن أن النظام مزيَّف ضدهم، وأن البضائع الموجودة على ظهر السفينة هي لمصلحة المركز المالي في وول ستريت وليس الناس البسطاء الذين يشكلون الجزء الأهم من الشارع. مهما تكن مواقفهم، الحقيقة الجديدة هي أنهم قد يكونون على حق ـ ليس فقط بخصوص عدم المساواة في الدخل والدور الذي يلعبه المال في السياسة، بل في مدى توفر الفرص في الولايات المتحدة. الفرص أقل بكثير مما يعتقده الكثيرون. الطفل الذي يولد في عائلة ثرية في الولايات المتحدة لديه فرصة في تحقيق الحلم الأميركي أكبر بكثير من فرصة الطفل الذي يولد بين عائلة فقيرة.

هل فرص الأميركيين في صعود السلم الاجتماعي أصبحت أكثر صعوبة؟ لا أحد يستطيع أن يقول ذلك بالتأكيد. لكن الكثير من الأدلة تشير في ذلك الاتجاه. باختصار فإن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد لها أهمية كبيرة. ولذلك فإن القول بأن احتجاجات "احتلوا وول ستريت" هي تعبير عن "الصراع الطبقي" قد يكون صحيحا.