استمتعتُ بحوارٍ بين رجلٍ ستّيني وابنتِه حول فيلم «ناقة»، لمشعل الجاسر، كان الأب مستاء، وابنته مستمتعة، وأظن أن المتعةَ الحوارية تلبّستنِي؛ لأني رأيتها تصور -واقعيًا- متعةً صنعها الفيلم، إذ يمكن أن تجد فيه سَردًا سينمائيًا يَكسِر حدةَ الفواصلِ العقيمةِ بين الأجناس، وطُرقَ المتابعةِ الرتيبةِ، وهو -في الآن نفسِه- يلتزم بموضوعِ أفلامِ الطريق، مع إدخالِ المتلقي في إعادةِ تشكيلِ هذا الطريق، ثم هو مع كل هذا حافظَ على إشكاليةٍ مكانيةٍ عميقة؛ فالفيلم يَتعالق مع الناقة -لا الجمل- بوصفِها تاريخًا للمكانِ، يصطدم بالحداثةِ التي ورثها السعوديون وشَكَّلوها بطريقتِهم، ومن العلاماتِ الموضوعيّة اتّسَاق نصّه السرديّ مع الصورةِ البصريةِ المتحركة بسرعةِ العصر السائلِ بنكهةٍ سعوديةٍ، تُشبِه رغاءَ «جملٍ» لا جسدَ له. وليسَ من الفكاهةِ أن أؤكِد أنَّ الضميرَ في «ورثها» يعود للناقةِ والحداثةِ على حدٍ سواء؛ فقد سبقَ هذه الأفلام، هَمٌّ سينمائيِّ دؤوب، صنَع بذرةَ معنى سينمائيً لا يَعرِفه بقايا الظواهرِ الأيديولوجية، وما يرغبون مشاهدتَه، وتَصوّره عن الصنعةِ وعلاقتِها بالمكان، وأما الذين لم يُعجِبهم الفيلم من بواباتٍ ذوقيّةٍ متعددة، فهؤلاء مختلفون عن بقايا الأيديولجيات، وفعلهم مفهوم وعادي، ولا يهمّ المقالة منهم إلا أنهم تَداخلوا-مع الآخرين المعجبين أو بقايا الأيديولوجيات-وصنعوا طقسًا سينمائيًا، ولم يتركوا الفيلم غُفلًا عن التعليقِ ككثيرٍ من الأفلام، وهذا ما يُحيلنا إلى معنى «طقس العبور» في العنوان، إذ إنَّ ردةَ فعلِ الرجلِ الستيني جزءٌ من ردةِ فعلٍ جماعيّة -تُؤكِّد على شيءٍ في صنعةِ هذا الفيلم تحديدًا- تعدّدت أسبابُها، لكنَّ أبرزها -فيما يهم المقالة- ما يتعلَّق بسرديةِ الفيلمِ والصنعةِ البصرية، من حيث غرائيبيّتُها في تناولِ المكان، مما أنتجَ طقسًا سينمائيًا تَلبَّسَ المتابعين، وهذا الطقسُ ينتمي لظاهرِ الفيلم، لا الفيلم في ذاتِه.

هذه الغرائيبيّة أعادتني إلى مشروعٍ قديمٍ لم يكتمل في دراساتِ المكانِ السعودي، كما هو في امتداداتِه الحديثة؛ ففي الثمانينيات الميلادية طرقَ المسرحيُّ محمد العثيم من خلالِ أوراقٍ أكاديمية أبوابًا متصلة بالطقسِ المسرحي، وعلاقتها بكلّ ما هو احتفاليّ شعبي، ثم ألّفَ في أوائلِ التسعينيات -في ضوء المفهوم الطقسي- مسرحية «السهل والجبل»، ووازاها بعملٍ أكاديميٍّ، إلا أنَّ ردةَ الفعلِ التي وُوجِه بها العثيم كانت إهمالًا، لغرائبيةِ ما يُطرح، والمفارقة أنَّ الذي أهملها هم الأكاديميَّون؛ لانشغالهم بالنظريات الغربية: البنيوية والتشريحيّة، وحينها وُلدت النكتةُ: طقس الزار -بوصفه مسرحًا- في جنوبِ نجد، لا يُدرَس لغرابتِه، وأما البنيوية فلها في ضرعِ النياقِ حليبٌ غزير.

هذا التشابه في صدمةِ الغرائيبيةِ هو ما جعل طقسَ العبور المكاني لا يكتمل، بل يُعيد الدورةَ كثورٍ رُبِطَ بخشبةٍ حول ساقية، وحين أقول: «طقس العبور» فإنَّ الاتصالَ بالمكانِ لا يريد مؤدلجين جُددًا، خلعوا عباءةَ الأب، ولبسوا عباءةَ الأخ والابن؛ ليعودوا -بطرق حديثة- إلى رأسِ العقليةِ السابقة أو أختِها، ثم إنَّ هذا الطقسَ السينمائي -لا طقس الفيلم- يَعبُر بالحالةِ الجماعيَّة التي عاشَها المتابعون -فأصيبوا بردةِ فعلٍ- إلى منطقةٍ أخرى، هي ما يرجوه الطقسُ في أصله، لهذا أستَعيدُ إشكاليةَ الطقسِ المسرحي، من خلال سؤالٍ أرّقَ محمد العثيم هو: كيف نكتب تراثًا منسجمُا مع الإطارِ المسرحي؟، ويٌوضِّح إشكاليةَ السؤال مثالُ المسرحيات التي ما إن تَبدأ إلا وتُقطَع بفاصلٍ استعراضيٍّ غنائِيّ، مما يجعل الممثلين والحضور يخرجون من حالةٍ، ويندمجون في أخرى، فأين للطقسِ أن يكتمل؟!. ثم أينَ للحالةِ أن تبني طقسَ العبورِ الذي يُطهّر المتلقّين من الأيديولوجيات المستترة المتجددة، وذلك باقترابهم من التجربة كما هي، لا كما يرغبون، أو ترغب معتقداتُهم وقوانينُهم الصلبة كصلابة صخرة عنترة؟ إذ حين أعود لفيلم «ناقة»، أجده -في ذاتِه- يَكسِر مفهومَ الطقسِ المتكاملِ؛ ليبني حالةً تُشبِه صدمةَ الحاضر الذي يبني طقوسَه الفردية بعددِ الأنفاس البشرية، مع أنَّ ظاهر الفيلم -لا الفيلم في ذاته- صنعَ طقسَ عبورٍ، وكأنَّ السعوديين اجتمعوا أمامَ شاشةٍ واحدة مقرها صحراء الجزيرة، وأسلاكها تفرّقت بين السعودية وكاليفورنيا، فتلبَّستهم «حالة»، تُشبِه المعنى المهم القديم لمفهومِ السينما، قبل أن تغزو الأفلامُ المنازل، لكن السؤال: هل يكتمل طقسُ العبورِ، وفي الدارِ مؤدلجون جدد؟!.


التفاتة:

سٌمّيت بنتُ الناقةِ أول ولادتها: «حائل»، وأمها أمُّ حائل، قال أبو ذؤيب الهذلي:

«فتلكَ التي لا يَبْرحُ القلْبَ حبُّها

ولا ذِكرُها ما أَرْزَمَتْ أمُّ حائلِ»

ألا ترى أنًّ سارة -بطلة الفيلم- أعطت الناقةَ مخدرًا، فولدت حائلًا؟!

ربما هو جزء من تمثّلات حيلولة العبور.