أكثر ما يقلق العقلية المحافظة أو التقليدية هو التعامل مع المفاهيم المفتوحة والمرنة. خذ على سبيل المثال مفهوم الليبرالية في الساحة المحلية لتجد أن أول اعتراض على هذا المفهوم هو أنه مفهوم مطاط وليس له تعريف دقيق وحاسم ونهائي. بالنسبة للعقل التقليدي تعتبر هذه السمة مقتلا يجعل من هذا المفهوم غير صالح للتداول والتعامل معه. في الجهة المقابلة، أي في الثقافات المنفتحة والحديثة، تعتبر سمة المرونة والحركية في أي مفهوم فكري ميزة وإمكانية عالية تدل على قدرة هذا المفهوم على التعامل مع طبيعة الحياة المتغيّرة والمتقلّبة.

لهذه المواقف خلفياتها المعرفية فالعقلية التقليدية أو المحافظة تسعى للثبات والاستقرار باعتبار أنها تمتلك الحقيقة المطلقة وليس عليها إلا تطبيق هذه الحقيقة. يشهد التاريخ أحيانا حركات ثورية محافظة أي حركات محافظة تسعى للتغيير فهل يعني هذا أنه حتى العقلية المحافظة تحتوي في داخلها على حركة؟ نستطيع من خلال تتبع الفكر التقليدي واستقراء الحركات المحافظة الثورية (القاعدة اليوم مثال على ذلك) أن نرى أن التغيير الذي تسعى له ليس استمرار الحركة والتغيير باعتبار أن هذا هو منهج الحياة السليم بل هي حركات ثورية تسعى للوصول لحالة الثبات على مبادئها. أي إنها تسعى للتغيير ليس قناعة في التغيير ذاته بل هو سعي للسلطة ومن ثم إحلال الثبات والسكون بل والجمود. من ضمن من انتبه للتقليدية داخل الحركات الثورية العربية المفكر السعودي عبدالله القصيمي حيث نقد الثورات العربية مبكرا باعتبار أنها ثورات تسعى للاستقرار وليس للحركة. هي ثورات مزيفة حين وصلت للسلطة أمسكت بها وقتلت كل فرصة للحركة.

إذن فإن سرّ الحركات المحافظة هو اعتقادها أنها تملك الحقيقة المطلقة وبالتالي فإن دورها هو جعل هذه الحقيقة واقعا على الأرض. الحقيقة المطلقة لا بد أن تكون واضحة جلية لا يدور حولها خلاف ولا شك ولا سؤال وأي شيء من هذا يعتبر عدم اعتراف بإطلاقية هذه الحقيقة وبالتالي يعتبر خروجا عن الذات والجماعة يستوجب التصدي له بحسم وسرعة. يمكن لنا ملاحظة هذه الخاصية في عدد من التيارات الفكرية في العصر الحديث. الأصوليات الإسلامية أنموذج صارخ لادعاء ملك الحقيقة ومنع حركة الفكر خارج هذا الإطار كما أن الستالينية أنموذج واضح أيضا فأقوال ستالين أصبحت لدى البعض نصوصا مقدسة يعتبر الخروج عليها خروجا على الروح والجماعة السوفيتية. الهتلرية أنموذج آخر على ذلك ويمكن توسيع هذه النماذج على كل الحركات الدكتاتورية الاستبدادية في العالم.

في هذه الثقافات تعثر على إجابات ولا تعثر على أسئلة. بل إن حالة السؤال تعتبر حالة مربكة يهرب منها العقل التقليدي إلى أقرب جواب. في هذه الأجواء تنتشر الإجابات وتغطي الفضاء ويبقى حضور الأسئلة حضورا شكليا لمجرد الوصول للإجابات المحددة سلفا. يمكن هنا ملاحظة ظاهرة الكتيبات والمطويات المليئة بـ "سؤال|جواب". يحضر السؤال في هذه المطويات كطريق مفتعل للوصول إلى الجواب المحدد سلفا. الجواب هو المهم أما السؤال فهو مجرد حالة طارئة يجب ألا تستمر طويلا. ولذا فإن الثقافات التقليدية يبدو فيها كل شيء معلوما ولا تعثر على قلق من نقص المعرفة والحاجة للبحث والسؤال.

في جهة أخرى استمعت قبل أيام لمحاضرة لفيلسوف العلم الفيزيائي ستيفن وينبرج يتحدث فيها عن كتابه الصادر حديثا LAKE VIEWS وبدون مبالغة كانت أكثر عبارة ترددت في المحاضرة عبارة "لا نعرف". المحاضر هنا يتحدث عن آخر ما وصل إليه العلم الطبيعي اليوم في الغرب وتحديدا علم الفيزياء والنظريات المفسّرة للكون. كانت المحاضرة عبارة عن مصنع للأسئلة وبرأيي أنها معبّر واضح عن روح العلم والعقل الإنساني الحديث الذي يقوم على الفكرة الأساسية التالية: المعرفة التي نملكها اليوم معرفة محدودة ويجب علينا السعي باستمرار لتحصيل معارف جديدة واكتشاف سر الإنسان والكون والحياة. في العقل الحديث يبدو "كل شيء مشكل" وباعتبار أن المعرفة الإنسانية تتطور مع الوقت فإن الحركة في العقل الحديث هي حركة للأمام، حركة للمستقبل. فيما يتحرك العقل التقليدي للخلف باعتبار أن الحقيقة المطلقة موجودة في الماضي ولا عليه إلا العودة لهذا الماضي للحصول على الجواب الشافي الكافي.

لهذا كله تجد العقلية التقليدية مشكلة كبرى مع المفاهيم المرنة والمتحولة وفي حال أن هذه العقلية تمتلك سلطة على المجتمع فإنها تسعى لإبقائه ثابتا مستقرا وصولا إلى حالة الجمود. هذه العملية مكلفة ومرعبة للمجتمعات فمنع الناس من التفكير أمر في غاية الخطورة. خطورة على المجتمع وعلى الأفراد، فالإنسان يمتاز عن بقية الكائنات، على الأقل فيما نعرف حتى الآن، بأنه كائن حر وعاقل. كائن لديه القدرة على التفكير وتجاوز حالته الراهنة. وبالتالي فإن منعه من التفكير بدعوى عدم الحاجة للتفكير هو قتل لإنسانيته وقضاء على ميزته الوحيدة وتحويل المجتمع إلى مجموعة عاجزة عن النهوض بمسؤولياتها والقيام بدورها في الحياة. المفاهيم والأفكار المرنة هي علامة على البحث والسؤال والعمل وعلامة على القدرة على التطور واحترام الاختلاف. المفاهيم المرنة والمتحولة هي صورة للعقل السليم، العقل الذي هو في رحلة مستمرة من أجل الاقتراب من الحقيقة.

هي صورة للإنسان الناجح الذي تعتبر حياته رحلة بحث عن المزيد من النجاح. المفاهيم المرنة والمتحولة هي صورة لعقل الإنسان الذي يستيقظ كل صباح ليجد في داخله تلك الطاقة الهائلة التي تدفعه للبحث عن وجه جديد للحياة، عن سر من أسرارها. المفاهيم المرنة والمفتوحة تحمل في داخلها جنين السؤال وكلما لاح جواب في الأفق عادت ولّادة الأسئلة لتفتح نافذة من جديد، نافذة يحلق من خلالها عقل جديد فيما يبقى عقل آخر هناك مكبل بقيود الظلام.