والذي يحفزني اليوم إلى الكتابة ليس تناول الأستاذ فهمي هويدي مقدمتي المترجمة للعربية لكتاب المؤلف الغربي فرنسوا بورجا عن الإسلام السياسي، وإنما ما يتضمن هذا النقد من آليات خطابية تتسم بالعنف، وتفضي إلى الإرهاب الفكري، وتلك الآليات تحديدا ستكون محورا تحليليا لا ردا على فهمى هويدي فقط، بل كشفا لآليات الخطاب الذي يحرص على التخفى تحت قناع الاعتدال في حين أنه يخوض حتى الأذقان في التطرف والعنف والإرهاب، وليس الحديث عن الخطاب التسلطي القمعي الإرهابي حديثا جديدا ابتدئه من عندي، أي أنه ليس بدعة تستوجب التكفير، بل هو نهج في الكشف عن آليات الخطاب الخفية استقر علميا في مناهج تحليل الخطاب في الفكر الفلسفي والنقدي المعاصر.
ومن حسن حظ الأستاذ فهمي هويدي والخطاب الذي يعد خطابه نموذجا له أن موضوع التحليل سيكون ما كتبه تعليقا على مقدمتي للكتاب، وهي لا تتجاوز الصفحات العشر، ومعنى ذلك أن مادة التحليل مادة محددة كميا، وهو أمر يساعد المحلل في إنتاج تحليل عميق كاشف في هذه المساحة المتاحة للنشر، ولعل هذا التحليل الذي سأقدمه لآليات الخطاب أن يضيف آليات جديدة لتلك الآليات التي سبق أن رصدتها في دراسة سابقة بعنوان «الخطاب الديني المعاصر: آلياته ومنطلقاته الفكرية». من هذه الزاوية أشكر له أنه أتاح لي تلك الفرصة المزدوجة أن أشارك في الإسهام في تحليل أسباب العنف والإرهاب ولو على مستوى الخطاب من جهة، وأن أضيف إلى ما سبق أن كتبته إضافات جديدة من جهة أخرى.
التطرف في معناه اللغوي هو لزوم طرف في مواجهة طرف آخر، فالمتطرف يلزم اتجاها معاكسا نقيضا لخصم حقيقي أو متوهم واقعي أو متخيل، وهو لا يكتفي بذلك فحسب، بل لا يدرك الظواهر إلا في سياق تطرف، أي يدركها في علاقاتها التطرفية أو المتطرفة. لذلك يحرص الخطاب الديني للإسلام السياسي - مثلا - أن يضع نفسه في الطرف المقابل والنقيض للخطاب القومي الذي يصر على وصفه بأنه علماني، حرصا على تأكيد علاقة التضاد والتنافر بين الطرفين.
وفي افتتاحية المقال المذكور لفهمي هويدي نلاحظ علاقات التضاد والتطرف التي ينشئها بين الكتابات الغربية عن ظاهرة الإسلام السياسي، وبين هذه الكتابات التي يصفها بأنها مدهشة، فالخطاب الغربي الذي يتناول ظاهرة الإسلام السياسي يتسم عموما بعدم التجرد والإنصاف، وبانتفاء الموضوعية والنزاهة عن منظوراته، لذلك يندهش الكاتب، والدهشة تعبير عن خروج الشيء من غير معدنه وأصله، من وجود الكتابات الموضوعية المنصفة، إذ يقول فهمي هويدي: «من حين لآخر يفاجئنا بعض الباحثين الغربيين بكتابات عن الظاهرة الإسلامية تدهشنا في مدى إنصافها وموضوعيتها».
نحن إزاء عناصر: المفاجاة التي تفضي إلى الاندهاش، ثم وجود كتابات غربية محايدة منصفة يضعها في خانتين، كل واحدة منهما في طرف مقابل للطرف الآخر، ولسنا هنا بصدد مناقشة المنصف المحايد الذي لا يرضى عنصرية المتطرف، فلا يرى في الكتاب إلا الحقيقة، ولا يرى في المقدمة إلا الخطأ.
ومن الإيجابيات التي أبرزتها المقدمة للكتاب، وتحدث عنها فهمي هويدي كذلك، أن الكتاب، وإن كان يناقش الظاهرة في بلاد المغرب العربي، فإن النتائج تنسحب على الظاهرة في مجملها في العالم العربي، ومن تلك الإيجابيات الاعتماد على الشهادات ذات الصفة الوثائقية، وكذلك النظر إلى الظاهرة في صيرورتها الاجتماعية والتاريخية، ما ينفي عن الظاهرة الوصف الذي دأب عليه الإعلام العربي والغربي بأنها «نبت دخيل».
ومن الإيجابيات التي رصدتها المقدمة، بالإضافة إلى ما سبق ذلك كله، إدراك المؤلف تعددية الظاهرة من جهة، وأسباب العنف الحقيقية من جهة أخرى، وهي الأسباب التي تجعل منه ظاهرة اجتماعية سياسية، وليست صفة تتوحد بالإسلام السياسي.
لم يأت فهمي هويدي في الإيجابيات التي رصدها للكتاب بإيجابية واحدة لم يرصدها التقديم الذي وضعه في خانة العداء والهجوم والاتهام للكتاب وصاحبه. إن مشكلة فهمي هويدي ومشكلة الخطاب الذي يمثله أنه لا يقبل أقل من الاتفاق التام والتسليم المذعن لأطروحاته دون نقاش.
1993*
* باحث وأكاديمي مصري «1943 - 2010».