حين وقعت كارثة فلسطين عام 1948 لم تخلف تغييرًا جذريًا في المجتمع العربي هناك من حيث العدد فقط، ولكنها أحدثت أيضا هزة جوهرية في التركيب الاجتماعي لعرب فلسطين المحتلة.

فأكثر من ثلاثة أرباع الـ200 ألف عربي الذين بقوا يومذاك في فلسطين بعد الاحتلال الصهيوني، كانوا من سكان القرى، أما سكان المدن فقد هجرت الغالبية الساحقة منهم فلسطين إبان حرب الـ1948 أو بعدها بقليل، وأحدث هذا الواقع اعتزازًا صاخبًا في جوهر المجتمع العربي هنالك، ذلك أن المدن لم تكن فقط مركز القيادة السياسية، ولكن أيضًا، كما في معظم الأحوال، مركز القيادة الفكرية الأساسي.. وهكذا، فحين أحكم الاغتصاب الإسرائيلي طوق الحكم العسكري والحصار والقوانين القمعية على التجمعات العربية في الريف، خصوصًا في الجليل والمثلث والنقب، كان الجو مهيأ له تمامًا، ليس لتحقيق عملية کبح خطيرة لأي تيار سياسي أو أدبي ينبثق من هناك فقط، ولكن أيضًا لزرع بذور في تلك التربة البكر لتيارات مشبوهة تدخل ضمن الحياة الصهيونية الأدبية والسياسية في الأرض المحتلة.

قبل كارثة 1918 كان الأدب العربي في فلسطين يشكل رافدًا له قيمته في ذلك التيار الذي شغل النصف الأول من هذا القرن، متخذًا من القاهرة بالذات مركزًا لانطلاقه ولانصبابه، متأثرًا بالأفلام المصرية واللبنانية والسورية التي كانت في ذلك الحين رائدة ثورية لمرحلة جديدة خاضها الأدب العربي بعد نوم طويل، وحتى الأدباء الفلسطينيون البارزون ظلوا لفترة طويلة يدينون بشهرتهم إلى العواصم العربية التي كانت تفتح لهم صدورها وتتبناهم، لقد أسهمت عوامل كثيرة ليس هنا مجال تعدادها في حرمان فلسطين أدبيًا من المركز الذي كانت تتمتع به سیاسیة، ورغم ذلك فقد حقق الأدب العربي هناك، والذي ثبت فيما بعد أنه كان رائدًا قوميًا من الطراز الأول، ازدهاره اللائق.


وبعد النكبة لعبت الطلائع الفلسطينية المثففة دورًا بارزًا في منافيها، ونجحت رغم كل ما يقال في وضع أسس عريضة، وفي وقت قصير نسبيًا، لأدب عربي يمكن وصفه بأدب المنفى أكثر مما ينطبق عليه وصف الأدب الفلسطيني أو أدب اللجوء، وكان الشعر بالذات هو الرائد في هذا المجال، وخلال سنوات المنفي الماضية حدث تطور نوعي بارز في طبيعة ذلك الأدب، فبعد النكبة مباشرة، كما هو متوقع، خيم الصمت أولا كأنما هو نتيجة الذهول، ثم انفجر شعر حماسي صاخبًا کأنه يتجاوب مع الضمير الشعبي الذي إذ صحا من الذهول، لجأ إلى عدم التصديق.

ولكن هذا الأدب الذي كان يكتب في المنفى لم يكن يخضع لهذا النوع من التأثر فقط -نعني التأثر بالضمير الشعبي- ولكنه كان يخضع أيضا للتيارات الأدبية العربية والأجنبية التي كانت تفعل فعلها العميق والسريع في طبيعة حياتنا الأدبية، ونتيجة لهذا التأثر المزدوج خضع أدب المنفي لتغير نوعي في المضمون والشكل، فرضت التيارات الحديثة شخصيتها على التكتيك الأدبي، وفرضت المرحلة التي اجتازها الضمير الشعبي نفسها على المضمون.

1966*

* كاتب وروائي فلسطيني «1936 - 1972»