ويتحمل رجل الإعلام والصحافة نصيبًا من المسؤولية في ما آل إليه وضع الإعلام الجديد من تحول سلبي، جنى على الصحافة والتواصل الإعلامي برمته.
وفي وقت تخضع فيه أغلب المؤسسات الإعلامية التي تركز على الإعلام الجديد لسطوة أصحاب المال، إلا أن هؤلاء يبحثون عبرها عن سلطة متزايدة على الجمهور الأوسع وعن وسيلة تظل ناجعة من أجل التحكُّم في رغباته وعاطفته.
وفيما يتفق كثيرون على أهمية الإعلام بالنسبة لرجل السياسة، إلا أن الباحث المغربي المهدي مستقيم، يشدد في مقالة نشرتها دورية «أفق» على أن محترفي العمل السياسي لطالما انكبوا على محاربة الإعلام، نتيجة تطلعهم للاستحواذ على سلطة الحقيقة، فإنهم لا يتوانون عن استهداف منابره وتطلعاته في لحظات التحولات الحاسمة.
ويستشهد مستقيم بمقولة للمفكر التونسي فتحي التريكي، يذكر فيها «لم يفتأ دونالد ترامب يوجه الإهانات ضد الصحافيين والإعلاميين من أجل إخضاعهم إلى سلطته، والحقيقة أنه خلال حملته الانتخابيّة وصف مؤسسات الإنتاج وبيت الحقيقة بالفساد وعدم النزاهة، والكذب... إلخ، وقد كان يستهدف الجامعيين والقضاة والصحافيين أيضًا».
تغير الواجهة
يجزم مستقيم أن وسائل الإعلام لم تعد الواجهة الرئيسة التي يتواصل من خلالها رجل السياسة مع الرأي العام؛ حيث بات رجل السياسة يستفيد من الثورة الإعلامية والرقمية، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتطورة التي تساعده على توجيه الحوار وفق ما ينسجم مع توجهه الإيديولوجي، بما يتيح له استمالة الجمهور، ويتيح له كذلك تحويل انتباه الجمهور عن كل «أمر واقع».
لوثة تكنولوجيا
لم يسلم الإعلام الجديد من لوثة تكنولوجيا الاتصال والتقنيات الحديثة، وبات يركز على الكشف عن، أو «فبركة» الأحداث الشاذّة والسلوكات الغريبة والمُدهشة التي تستأثر بفضول الجمهور، ويبعده بالتالي عن «الحوار الجادّ، والتحليل العقلي والبحث الرصين عن الأشياء الحقيقية والجلية علميًا، على حد رأيي فتحي التريكي.
وفي عصر ما بعد الحقيقة الذي نعيشه صار التركيز على العاطفة والوجدان أكثر من التركيز على الحقيقة.
إيديولوجيا ما بعد الحقيقة
استندت عملية إعادة تأسيس الحقيقة على عمليتين فكريتين هما التصديق وقابلية التحقق، فيما يستند العصر الحالي، أو ما يمكن أن نسميه عصر ما بعد الحقيقة إلى الكذب ومعاداة الحقيقة، بل الأدهى من ذلك أنه يستند إلى الإشاعة، والمجادلات، والتحيز، والتشتت الفكري، والجُبن، والشلل، وسائر الرذائل المعرفية التي يسهل تسريبها إلى المشاعر من دون الوعي بأدنى حاجة إلى اعتماد معياري التصديق وقابلية التحقُّق.
ويقول فتحي التريكي «باستطاعة التلفزيون استعمال التلصص مثلا، ونفاد الكاميرا إلى حياة الناس الخاصة. أما تلفزيون الواقع، وميكروفون الشارع، فهما من العمليات التي تعطي الانطباع بأن الحقيقة المنقولة مؤسسة على الواقع، والحال أنها ليست سوى أبنية قامت لأجل سلطة سياسية ومالية معينة».
ملتيميديا موجهة
يتكل عصر ما بعد الحقيقة على الملتيميديا التي تتوجه صوب الجمهور على نحو مباشر، مبدية رغبتها في الالتفاف على سائر الحدود والنخب؛ إذ يتمثل هدفها الرئيس في إثارة عاطفة الجمهور وصناعة الرأي وتحريك الحشود.
ويقول فتحي التريكي «يُمكن أن تتغاضى السياسات عن المفكرين والصحافيين المحترفين كي لا تصل أفكارهم وبرامجهم إلى الناس. فهم يستخدمون الآن الملتيميديا، والشبكات الاجتماعية وكل ما تتيحه الإنترنت والتكنولوجيا الجديدة للمعلومات لأغراضهم ومصالحهم، والأدهى من ذلك أنّ الصحافيين أنفسهم يتحولون إلى صانعي الحقيقة المغلوطة حين ينقلونها».
تنظر أيديولوجيا عصر ما بعد الحقيقة إلى الفرد بوصفه كائنًا عاطفيًا وجدانيًا، لا يتفاعل مع حرفة القراءة، ولا حدود المُناقشة، ولا نظام الخطاب، ولا سيرورات البرهنة والنقد، بقدر ما تناسبه الفرجة، فكل شيء بات يُحوّلُ إلى فرجة في أيّامنا.
يقول فتحي التريكي: «تتيح الإخراجات السينمائيّة للسياسي أن يستخدم المشاهد لحسابه ويظهر هو نفسه في مظهر فرجوي عبر وسائل مختلفة على غرار الخطابة في قوله، والإخراج المرئي، والإخراج الصوتي... إلخ. يتعلق الأمر في النهاية بطريقة جديدة منمقة وتكنولوجية في استخدام البروباجاندا».
تأثيرات الإعلام الجديد
ـ تحويل مهمة الإعلام من البحث عن الحقيقة إلى صناعة الإثارة العاطفية
ـ صار أداة بيد أصحاب المال في رحلة بحثهم عن سلطة متزايدة على الجمهور
ـ صار أداة بيد رجل السياسة لتوجيه الحوار وفق ما ينسجم مع توجهه الإيديولوجي
ـ يستخدمه رجل السياسة لتحويل انتباه الجمهور عن كل «أمر واقع»
ـ يركز على الكشف عن، أو «فبركة» الأحداث الشاذّة والسلوكات الغريبة والمُدهشة التي تستأثر بفضول الجمهور
ـ يبعد الجمهور عن «الحوار الجادّ، والتحليل العقلي والبحث الرصين عن الأشياء الحقيقية والجلية علميًا»
ـ صار يركز على العاطفة والوجدان أكثر من التركيز على الحقيقة
ـ يستند إلى الكذب ومعاداة الحقيقة والإشاعة والمجادلات والتحيز والتشتت
ـ ينظر إلى الفرد بوصفه كائنًا عاطفيًا وجدانيًا لا يتفاعل مع حرفة القراءة ولا حدود المُناقشة ولا نظام الخطاب
ـ يركز أكثر على الفرجة ويستخدم طريقة جديدة منمقة وتكنولوجية للبروباجاندا