كتبنا هذا المقال لسبب سنذكره لاحقا لأنه مقلق بعض الشيء.

لكن في البدء يجب القول إن رجال الأعمال والتجار في البلد ينوعون من استثماراتهم وأملاكهم وهذا شيء متعارف عليه عالميا، أن التاجر لا يضع عادة كل أملاكه في مجال واحد حتى لو كان هذا مجال عمله الأساسي، فمثلا لو كان صناعيا فإنه يضع بعض استثماراته في العقار، وبعضها أسهم، وبعضها ربما كاش إلخ... وهذا شيء محمود من باب إدارة المخاطر.

لكن ما نتكلم عنه في المقال مختلف، إذا كان التاجر مجاله الأساسي مثلا صناعيا أو زراعيا أو تجاريا أو بيعا بالتجزئة، ثم بدأ يحول أو يخصص أغلب استثماراته إلى العقار، هنا يكمن السؤال؟!


كما يعرف كثيرون، تجارة العقار في البلد هي أسهل أنواع التجارة وأقلها مجهودا وأكثرها ربحية، لا تحتاج تفكيرا وتخطيطا، بسهولة اشتر أرضا ونم عليها كم سنة، والأرض على رأي بعض تجار العقار (شريطية العقار على شكل تجار): لا تأكل ولا تشرب، وسعرها يتضاعف مع الوقت، ولا تحتاج أي مجهود مجرد صندقة في البر، ولا تحتاج موظفين إلا اثنين؛ هنديا يصلح شاهي الضحى، ومعقبا على شكل وكيل لصاحب الأرض، ومنها يؤنس صاحب الأرض بالسوالف والمدح، وطبعا تريليونات من الريالات مجمدة في الأراضي والعقار، لكن في المقابل تجارة العقار هي من أقل المجالات في خلق الوظائف وتدوير المال، وليس هذا فحسب بل إن كنز الأموال في العقار قد يؤثر على قطاعات الاقتصاد الأخرى، الاقتصاد الصحي يعتمد على المجالات المنتجة مثل التصنيع والتجارة والخدمات وهي عادة التي تخلق الوظائف وتبث الحيوية في دورة الاقتصاد وهي من تجلب التطور والرفاه، لكن إذا ذهبت نسبة كبيرة من الدخل للعقار سيقل الصرف على القطاعات الأخرى ثم يؤثر سلبا.

عالميا منذ الثورة الصناعية، أصبح لقب رجل صناعي مرادفا للوجاهة والنفوذ والاحترام والقوة، مثل هنري فورد في تصنيع السيارات الذي أنشأ فكرة خط التجميع، وأديسون في الكهربائيات، حتى أعظم رجال الأعمال في اليابان هم صناعيون، مثل تويوتا وهوندا وايواساكي، وحتى في الوقت الحالي أغنى أغنياء العالم هم صناعيون أو تجار، مثل إيلون ماسك وبيل غيتس وجيف بيزوز، والعقاريون لا يأتون في المقدمة، وهذه هي القوة المنتجة للدول، لكن حاليا الوضع في الدايرة يبدو أن الوجاهة والمقدمة مجتمعيا تبدو إلى حد ما للعقاريين والصناعي في الخلف !!

متى ستتغير الثقافة الدارجة لدينا، ويصبح الصناعي أو التاجر والذي يقدم إضافة نوعية للبلد هو القدوة والمثال، بدل أن يكون العقاري الذي يبحث عن الراحة والسهولة!

الرؤية بنيت على الإبداع والتطور والأفكار الخلاقة الجديدة، وليس على تجميد الأصول وكنز الأراضي وربما إذا شد حيله شوي عمل له مول أو عمارة!

كما ذكرت كتبنا هذا المقال لسبب آخر أعتقد فيه شيئا من القلق، عندما أعود بزيارات للمملكة وأقابل بعض رجال الأعمال (الشباب نسبيا) والجيل الجديد وحتى بعضهم درس وعمل في الخارج وحتى بعض بيوت المال والاستثمار أتفاجأ بأن عديدا منهم دخل بالعقلية التقليدية ويريد الاستكانة للراحة والسهولة، وبدؤوا يركزون على العقار، وعندما نناقشهم يقولون خلنا نعمل على المضمون، ويريدون نجاحا سريعا مضمونا من خلال العقار، وفقدوا الشغف في المجالات الجديدة والإبداع!

بعض تجار العقار القدامى وبعض شريطية العقار فقدنا الأمل فيهم من زمان وغسلنا يدينا من أنهم يتغيرون بعد كل هذا الوقت، لكن الجيل الجديد من التجار هو المستقبل وإذا تغير تفكيرهم وتركيزهم واتجهوا كليا للعقار فهذا يقلل من الأصول المنتجة!

حاليا وعمليا، التي تحمل على عاتقها عملية التحديث والتطوير والإبداع والأفكار الخلاقة في البلد هي الجهات الحكومية، مثل صندوق الاستثمارات، ووزارة الاستثمار والصناديق الأخرى، وبعض الإدارات الجديدة في الرؤية، ورغم المحاولات الكبيرة من الحكومة لدفع القطاع الخاص قدما، ورفع مستواه الإبداعي والتطويري وتقديم كافة التسهيلات، ما زال عديد منه متشبثا بالأفكار القديمة، بل الأدهى أن بعضا من الجيل الجديد تأثر بأفكار الجيل القديم وبدأ يحاول إعادة محاولة نفس الطرق القديمة، طبعا أمام العلن لا يريد أن يخسر العلاقات الحكومية أو الزخم الاجتماعي والمزاج العام الذي يشجع الرؤية، لذلك قد تجده يردد مبادرات الرؤية والتحدث عنها، لكن عمليا طريقته تختلف كليا عن مسارات الرؤية والتطوير فتجدها قديمة وبيروقراطية لا تحمل تحديثا، وهذه مشكلة إذا كان الموضوع مجرد ترديد شعارات دون العمل بها، لأن الجيل الجديد هو من سيحمل المسيرة مستقبلا، ولا تريد أن يكون فريقك مجرد مردد لأفكار، وليس لديه شغفا حقيقيا لتنفيذها، ولا يعمل بها.

أتمنى من الوزارات المعنية مثل وزارة الصناعة، ووزارة الاقتصاد، ووزارة التجارة، والمالية، والأجهزة المعنية أن تدرس الوضع وتعمل على خطوات أكثر من أجل تغيير ثقافة العقار في مجتمع الأعمال إلى ثقافة التصنيع والخدمات والتجارة والأصول المنتجة، أعلم أن الوزارات عملت خلال السنوات الماضية على دعم وتطوير وتشجيع القطاع الخاص وقطاع المال والأعمال على ذلك، ولكن نحتاج إلى عمل وخطط أكثر وربما حتى خطط خارج الصندوق؛ لتغيير ثقافة الأعمال والمجتمع، أعلم أننا لسنا مجتمعا اشتراكيا، ولا نستطيع فرض نوع معين من الأعمال على القطاع الخاص، لكن جعل القطاع جذابا أكثر ومنحه ميزات، وفي الوقت نفسه محاولة عدم تسرب رؤوس الأموال من الصناعة والتجارة إلى العقار.

سعدت كثيرا بخبر في الميزانية عن دعم الصناعة والتعدين، وسعدت بما ذكره سمو ولي العهد وهذا يدل على نظرته الإستراتيجية والثاقبة للمستقبل وأشار إلى (عزم المملكة على تطوير القطاع الصناعي؛ لكونه من أهم القطاعات الحيوية في الاقتصاد السعودي، من خلال تنويع القاعدة الصناعية وسلاسل القيمة عبر «الإستراتيجية الوطنية للصناعة» التي تركز على 12 قطاعا فرعيا لتنويع الاقتصاد الصناعي ورفع الناتج المحلي الصناعي نحو ثلاثة أضعاف مقارنة بعام 2020، ليصل إلى 895 مليار ريال في عام 2030) سمو الأمير محمد بن سلمان يدرك جيدا أهمية القطاع الصناعي لمستقبل البلد وأنه قطاع منتج وفعال وحيوي في ديناميكية الاقتصاد السعودي المستقبلي.

أتمنى أن أرى اليوم الذي أجد فيه الصناعي السعودي العالمي فلان وفلان وفلان، ورجل الأعمال التاجر فلان، ويقدمهم المجتمع في صدر المجالس والمناسبات كما كان يقدم هنري فورد وأديسون، والآن يقدم إيلون ماسك وبيل جيتس، ليس الأمر مستحيلا إذا كان فيه شغف وتصميم وعزم عند التجار، لدينا أمثلة قديمة عن العقليات التي أصبحت من كبار وقادة التجارة في البلدان الأخرى، ولدينا مثال حالي قد كتبت عنه حتى قبل أن يصبح معروفا كثيرا للعامة وهو مؤسس أكوا باور الذي وصل للعالمية قبل المحلية في قطاع مهم ومنتج.