صراعاتٌ، لكأنّها الصراعات الأبديّة. لعلّ هذا ما حَمَلَ برنار هنري ليفي على السؤال «إذا كانت الكرة الأرضيّة كلّها لم تتّسع لشقيقَيْن من أمٍّ واحدة هُما قابيل وهابيل، فكيف للشرق الأوسط أن يتّسع لشقيقَيْن هُما إسحق وإسماعيل من أُمَّيْن مُختلفتَيْن في كلّ المواصفات تقريبًا؟». على ما يبدو هي دعوةٌ غير مُعلَنة لكي يَقتل إسحاق إسماعيل!
ولننتَقِل الآن إلى هنري كيسنجر الذي اعتبرَ أنّ الشرق الأوسط يُعاني من «الفائض الأيديولوجي» قائلًا لمجلّة «باري ماتش» الفرنسيّة: «قد تستغربون إذا ما قلتُ إنّني دخلتُ، كوسيطٍ، بين العرب واليهود من هذا الباب. أنا رجلٌ علماني كما تعلمون، لكنّني استعملتُ لغةً أخرى غير التي استعملتها في أيِّ مكانٍ آخر من العالَم لأصلَ إلى عقول طرفَيْ الصراع».
اللّافت هنا أنّ الفيلسوفَ الفرنسيَّ ميشال فوكو، بمفهومه المُلتبِس لـ«موت الإنسان»، كان شديد الافتتان بالثورة التي قادها آية الله خميني في إيران قبل أن يبتعد عنها كليًّا، بعدما حذَّرَ من تداعيات التأويل الأبوكاليبتي للنصّ الدّيني، إن في إيران أو في إسرائيل، مُشيرًا إلى حتميّة الصراع بين نظامَيْن ثيوقراطيَّيْن في الشرق الأوسط، ما يَجعل المُجتمعات المَعنيّة مُشرَّعة، ومن دون آفاق، على أكثر الاحتمالات هَولًا.
حاخامات السياسة
من تلّة الكابيتول ارتفعَ صوتُ السيناتور جون ماكين، واصفًا إسرائيل بالدولة الوحيدة داخل المنطقة العربيّة. الكيانات الأخرى عبارة عن مضارب قبليّة. هذا ما أثار الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران الذي رأى أنّ الفوقيّة في النظرة إلى المنطقة قد تفضي إلى اندلاع حرب المائة عام، بالتداعيات الزلزاليّة على القارّة العجوز التي تربطها علاقات تاريخيّة، وثقافيّة، مع الشرق الأوسط.
السؤال الذي طالما طُرح على الطاولة «لماذا استبقَتِ الولايات المتّحدة، بإمكاناتها الأسطوريّة، عسكريًّا وديبلوماسيًّا، الملفَّ الفلسطينيَّ في الثلّاجة، وهو، في الواقع، على صفيحٍ ساخن؟» بطبيعة الحال هناك اللّوبي اليهودي الذي لم يتوقَّف يومًا عن التوسُّع الإخطبوطي في أرجاء الاستبلشمانت. الملياردير النيويوركيّ، وصديق بنيامين نتنياهو، شلدون أدلسون، لم يتورَّع عن القول، قبل وفاته في العام 2021، إنّ إقامة الدولة الفلسطينيّة «على أرض الميعاد» تعني بداية النهاية لإسرائيل.
أدلسون اعتبرَ أنّ التعايشَ مستحيلٌ بين دولتَيْن إحداهما تحمل «الوعد الإلهي»، والثانية تخفي السكّين تحت عباءتها. على الرّغم من كلّ ذلك، هناك فلاسفة وباحثون غربيّون يعتقدون أنّ الشرق الأوسط سيبقى القنبلة القابلة للانفجار في أيِّ وقت، وقد تَصل شظاياها إلى البيت الأبيض إذا ما بقيَتِ التراجيديا الفلسطينيّة عالقة بين أسنان الحاخامات، حاخامات السياسة بطبيعة الحال.
تذكرون كم كانت يد إسحق رابين بطيئة وهي تمتدّ لمُصافَحة ياسر عرفات في حديقة البيت الأبيض (13 سبتمبر 1993) لدى التوقيع على اتّفاق أوسلو، كما لو أنّ الملفّ الفلسطيني دُفن آنذاك تحت الورود والثلوج الإسكندينافيّة. الدليل أنّه بعد ثلاثة عقود من التوقيع لا تزال الضفّة الغربيّة تحت الاحتلال، ولا تزال غزّة تحت الحصار. يوميًّا، القتل، والتنكيل، والاقتلاع.
كيف للنيران أن تخمد في الشرق الأوسط في حال بقيَ مصير ملايين الفلسطينيّين، إذا ما تغاضيْنا عن فلسطينيّي الدياسبورا، داخل ما دعاه إدوار سعيد «أرخبيل الغولاغ»، في استعادةٍ دراميّة لرواية السوفيتي المُنشَقّ ألكسندر سولجنتسين حول المُعتقَل الستاليني الرهيب في سيبيريا.
الحاجة إلى حرب كبرى
إدوارد سعيد اعتبَرَ أنّ تغيير المشهد الشرق الأوسطي يرتبط، في الدرجة الأولى، بتغيير العقل الإسرائيلي (العقل الإسبارطي). ردّات الفعل الصاخبة على عمليّة 7 أكتوبر، وحيث عادت الثقافة التلموديّة (إلغاء الآخر) إلى الظهور بأكثر وجوهها وحشيّة، أَثبتت أنّ من المستحيل حدوث تغييرٍ لتبقى الدوّامة الدمويّة «شغّالة» في المنطقة. الفرنسيّ أوليفيه روا رأى أنّ مهمّة الأمريكيّين إنّما تبدأ من هنا. إقناع الإسرائيليّين بأنّ التاريخ لا يُمكن أن يمضي في خطٍّ مستقيم، حتّى أنّ فريديريك نيتشه عاد وانتقدَ، في سنواته الأخيرة، فلسفة القوّة. إنّها رقصة الخيول بين القبور.
وكان المُستشرِق الفرنسي دومينيك شوفالييه قد تحدَّث عن الصراع اللّامتكافئ بين العرب والزمن (وهذا له أسبابه البنيويّة). في رأيه التكافؤ يحصل بوعي العرب بأنفسهم. الخشية أن يحتاج ذلك إلى حربٍ كبرى، وقد تكون الحرب الطويلة والمريرة، إذا ما أخذنا بالاعتبار حساسيّة التضاريس التاريخيّة والفلسفيّة في المنطقة، كذلك التعقيدات الاستراتيجيّة في الوضع الدوليّ. التعليقات التي نُشرت في صحيفة «هاآرتس»، وبعضها لباحثين بارزين، أَظهرت الوجهَ البشعَ للسياسات الإسرائيليّة (مع أفول القيادات التاريخيّة)، لاحَظت أنّ الولايات المتّحدة، ولغرضِ حماية مصالحها في المنطقة، لم تتوقّف يومًا عن تفعيل الترسانة العسكريّة الإسرائيليّة لإرساء مُعادَلة التفوُّق على سائر الجيوش العربيّة.
لكنّ إسرائيل بَدَت أمامَ واقعٍ آخر حين ظَهرت في الميدان أنواعٌ أخرى من الحروب، حتّى أنّ بعض المُعلِّقين رأى في إرسال البيت الأبيض حاملة الطائرات «جيرالد فورد»، وما واكَبها من بوارج وغوّاصات نوويّة، ليعقب ذلك إرسال الحاملة الأخرى «دوايت إيزنهاور»، كمَن يَخلع المعطف الحديدي عن أكتافنا. «آلون بينكاس»، وهو دبلوماسي وكاتب إسرائيليّ، لاحَظَ أنّ إرسال تلك الأرمادا العسكريّة لـ «حمايتنا»، أَظهر أنّ إسرائيل وقد تحوَّلت إلى «دولة عارية» لا تستطيع الدّفاع عن حدودها فحسب، بل عن وجودها أيضًا.
البطة العرجاء البطة المجنونة
الآن، وعلى عتبة السنة الانتخابيّة قي الولايات المتّحدة، يحاول جو بايدن، كـ«بطّةٍ عرجاء» في العام الأخير من ولايته، ألّا يتحوَّل إلى «بطّة مجنونة» بإدارة أيّ صراعٍ عسكريّ في الشرق الأوسط الذي وصفه السيناتور بيرني ساندرز بـ «خاصرتنا الرخوة». الروس والصينيّون يراهنون على الانزلاق الأمريكي إلى مستنقع النار في المنطقة.
ريتشارد هاس يحذِّر من أيّ تراخٍ في التعاطي مع الأزمة الرّاهنة، ويدعو إلى التمهيد لفتْحِ ردهةِ المُفاوضات، وإلّا «نكون كمَن يبيع روحه للشيطان»، كما في رائعة غوته «فاوست».
لا مجال في أجواءٍ ملبَّدة للأخْذ بنظريّة كيسنجر (ثنائيّة الحقيبة والدبّابة التي طُبِّقت في البلقان). التفجير ينبغي أن يكون ممنوعًا ما دامت «القضيّة الأمريكيّة» في مكانٍ آخر. واضح أنّ الأمريكيّين، في هذه الأيّام، «يمشون حفاةً بين الحرائق»، بحسب ناحوم ناربيع. يُفترَض ألّا يكتفوا بتبريد الرؤوس الحامية والمجنونة في إسرائيل، بل ينبغي احتواؤها لأنّ أيّ خطأ يُمكن أن يؤثِّر بصورةٍ كارثيّة على دَور الولايات المتّحدة في منطقة وصَفَها برنارد لويس بـ «العربة المجنونة التي تجرّها آلهةٌ مجنونة». المؤرِّخ الأمريكي دانيال بايبس رأى أنّ أمريكا الـ«ما فوق القرن» ينبغي أن تكون الحوذي الوحيد لتلك العربة. هذا ليس رأي مؤرِّخين أو مُفكّرين آخرين، يقولون بالتداخُل العضويّ بين المأزق الوجوديّ لدى الإسرائيليّين والمأزق الاستراتيجيّ لدى الأمريكيّين الذين كم كانت صدمتهم هائلة حين اكتشفوا إلى أيّ مدى انتهى التقهقُر في إسرائيل، على الرّغم من المساعدات الضخمة التي قدَّموها إليها على مدى عقود.
الوكالة الأمريكيّة للتنمية تؤكِّد أنّ مجموع المساعدات التي قدَّمتها الولايات المتّحدة لإسرائيل منذ عام 1946، أي قبل إعلان قيام الدولة بعامَيْن، وحتّى العام 2023، ناهَزت الـ 260 مليار دولار، هذا عدا المساعدات الاستشاريّة الخاصّة بتطوير التكنولوجيا العسكريّة.
كلّ العرب، ومن دون النَّظر إلى غزّة اليوم، عاشوا التراجيديا الفلسطينيّة بأبعادها التاريخيّة والإنسانيّة، وحتّى الأخلاقيّة. نعود إلى محمّد أركون لنسأل ما إذا كان الزمن العربي سيعود إلى بهائه بعدما أُهيل عليه الكثير من الغبار.
لم يعُد الحديث في الغرب عن الاختلال في موازين القوى. المؤرِّخ والكاتب اليهودي الفرنسي دومينيك فيدال تحدَّث عن موازين الضعف «وعلى القيادة الإسرائيليّة أن تعترف بأنّ ثمّة أشياء كثيرة حدثتْ في الميدان، وقَلبتِ المشهدَ رأسًا على عقب».
إذا كانت المنطقة ضحيّة الصراعات التي راحت تتبلْوَر تباعًا منذ ظهور مصطلح «المسألة الشرقيّة» 1823، وقد أَعقب ذلك بنحو قرنٍ، سقوط السلطنة العثمانيّة، فهي الآن ضحيّة الفوضى الدوليّة التي حذَّر منها زبغنيو بريجنسكي لدى إعلان الرئيس جورج بوش الأبّ قيام «النظام العالَمي الجديد»، إثر تفكُّك الإمبراطوريّة السوفيتيّة، وتكريس أحاديّة القطب في قيادة العالَم.
الآن يُحذِّر المؤرِّخُ الفرنسيّ الآخر، والعالِمُ الأنثروبولوجي إيمانويل تود الذي توقَّع في عام 1976، سقوطَ الاتّحاد السوفياتي؛ وكتبَ في عام 2009 «سقوط الحُكم الأمريكي»، من «رقصة التانغو على ساقٍ واحدة في الشرق الأوسط». المنطقة التي «حملتْ إلينا الله». لأنّ ذلك قد يؤدّي إلى «انفجار العالَم»، وقال للأمريكيّين «إنّ زلزالًا يطرق على بابكم».
ليست إسرائيل، وليست أمريكا في مأزق فقط. العالَم كلّه في مأزق. لا بدّ للشرق الأوسط أن يتغيَّر، على الأقلّ لأنّ إسرائيل لا تستطيع إلّا أن تتغيّر. لنلاحظ ما كتبته «هاآرتس»: «الويل لدولةٍ يقودها بينامين نتنياهو. الويل للجنود، وللمدنيّين الذين حياتهم بين يدَيْه». في نَظَرِها «ليست هناك حاجة لنشرح لهم (هَول) اللّحظة، وما هو على المحكّ». ما هو على المحكّ، دولةٌ توراتيّة بمئات الرؤوس النوويّة وجودُها مهدَّد. هذا ما تدركه جيّدًا إدارة الرئيس جون بايدن. إنقاذ إسرائيل لإنقاذ أمريكا. هل يكون إنقاذ الفلسطينيّين أيضاً؟
بكلّ تأكيد لم يَعُد هناك من أثرٍ للغيتو التوراتي «من النيل إلى الفرات». ثمّة آخرون في هذا المكان...
حين يتغيَّر الشرق الأوسط يتغيَّر العالَم. ولكن كيف؟ لن نذهب حيثما ذهب فرانز كافكا بسوداويّته الفذّة: «ثمّة غربان كثيرة على كتف هذا العالَم.»!!
* كاتب ومحلّل سياسي من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية