قبل خمسة أشهر تقريبا كتبت مقالاً بعنوان «بين كيسنجر ووالتز.. كيف تتعلم السياسة؟»، وكان هنري كيسنجر للتو احتفل بعيد ميلاده الـ100، الآن نكتب المقال بمناسبة وفاة ثعلب السياسة هنري كيسنجر، وقد يستغرب القارئ خصوصاً الجيل الجديد لماذا كيسنجر؟ وقد ذكرنا ذلك سابقا «لكن السؤال الذي قد يسأله الجيل الجديد من المهتمين هو: ما يهم العالم بسيرة أو أخبار سياسي متقاعد قديم بلغ من العمر قرناً، وأيضاً لم يكن رئيس دولة، بل كان قبل عقود مجرد مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكي، وقد مر على هذين المنصبين عشرات السياسيين غيره دون أن يهتم أحد بذكرهم؟!»، طبعاً كلمة «متقاعد» ضع تحتها خطين، لأن كيسنجر في قمة نشاطه نسبياً لشخص بلغ الـ100، حيث ما زال كبار الساسة أو علماء السياسة يستشيرونه ويستأنسون برأيه في الأزمات الدولية والسياسية، وهو يؤلف الكتب... هل هناك مبالغة في تقدير ذكاء ودهاء كيسنجر؟ الجواب ببساطة: لا، وسأشرح لماذا؟».

أولاً، قبل أن نتكلم عن سيرة كيسنجر يجب أن نعلم أن السياسة الأمريكية سياسة تهتم بمصالحها ولا تؤمن بالمبادئ والقيم إلا شكلياً، لكن واقعياً تهتم بالوصول إلى المصالح القومية الأمريكية خصوصاً في عهد الستينيات والسبعينيات، كانت أمريكا مستعدة لأن تخطط لانقلاب أو حرب أو ثورة في كل بلد لا يتبع مصالحها، كان الوجه المقيت الواقعي للسياسة الأمريكية في أبشع صوره وكان مطلوب من كيسنجر أن يخطط وينفذ من أجل المصالح العليا الأمريكية وخدمة المؤسسة الحاكمة، فالموضوع هنا ليس شعارات أو الصح والغلط والأخلاق بل كان ما يمكن تحقيقه بغض النظر عن الوسيلة، والغاية تبرر الوسيلة كليا في نظرهم في ذلك الوقت وغالبا إلى الآن، لذلك فإن اتهام البعض لكيسنجر بأنه سيئ وشيطان لن يغير في الموضوع شيئاً، فنحن لا نتكلم عن مبعوث سلام من الأمم المتحدة أو أحد دعاة حقوق الإنسان بل نتكلم عن وزير خارجية أمريكا ومستشار الأمن القومي، وهو كان ينفذ ما يتحتم عليه عمله، وربما حتى أعداؤه قد يقولون إنه كان يبرع في ما يعمله، وله طريقة محنكه في رسم خططه، وهنا يأتي دهاؤه السياسي.

ربما هانز مورغنثاو هو الأب الروحي النظري للواقعية السياسية، لكن هنري كيسنجر كان من أفضل من مارس الواقعية السياسية في السياسة الدولي بشكل يومي وواقعي، لسنا نقول إنه كان يتبنى كامل أطروحات مورغنثاو لكن كانت له طريقته المميزة والمختلفة في الواقعية السياسية، وكان هو المطبق العملي للسياسة الواقعية عالمياً، ولإعطاء فكرة مبسطة عن خلفية كيسنجر الذي شغل منصب وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي في عهد الرؤساء ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد فهو وُلد في ألمانيا، وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1938. لعب دوراً محورياً في السياسة الخارجية الأمريكية خلال الحرب الباردة، وكان له دور فعال في رسم السياسات الأمريكية مع الاتحاد السوفيتي والصين والشرق الأوسط، حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1973 لجهوده في إنهاء الحرب الفيتنامية، طبعاً هذه مزحة، لكن حقيقة أن هنري يأخذ جائزة نوبل للسلام، ولا أعتقد أن كيسنجر داخل نفسه يعتقد أنه رجل سلام، لكن المصالح الأمريكية في حينها كانت تحتم إنهاء الحرب، فالرجل الذي تدخل بنفسه في كأس العالم كيف تفوز الأرجنتين حتى يساند حليفه الديكتاتور الأرجنتيني لا يهتم كثيراً بالسلام ما لم يكن هناك مصلحة له فيه، وله صولات وجولات في سياسة الشرق الأوسط، وله لقاءات واجتماعات شهيرة مع الملك فيصل، رحمه الله، والملك فيصل كان يعرف معدنه ودهاءه، لذلك كان حازماً معه، وأيضاً له دور كبير في الانفتاح على الصين، وكان عراب انفتاح الصين على أمريكا والغرب، مختصر القول إنه كان بارعاً جداً في ما يفعله كسياسة واقعية، رغم أنه أتى من مجال أكاديمي، فقد حصل على البكالوريس والماجستير والدكتوراه من هارفارد، ورغم أنه عندما بدأ العمل الدبلوماسي والسياسي شكك البعض بقدراته بالقول ماذا سيعمل دكتور متعود على النظري بالسياسة الحقيقية، ولم يكونوا يعلمون وقتها أنه سيكون الأب الروحي للممارسة السياسية الواقعية.


أما لماذا هذا الاهتمام بكيسنجر حتى بعد تقاعده وتركه للمنصب، فربما عوامل كثيرة لكن ببساطة هي قدرته الهائلة على تحليل الأزمات والسياسات وإعطاء التصور الصحيح (أو ما سيثبت أنه صحيح) أي قدرته أن يكون مصيباً في توقع النتائج حتى مع تعقيدات الأزمات السياسية، أذكر عندما بدأ الخريف العربي، ضج الإعلام الغربي والسياسيون والأكاديميون بأنها موجات ديمقراطية تضرب العالم العربي، كان لكيسنجر رأي مختلف كلياً، إذ قال إنها ليست موجات ديمقراطية، عديد من الأزمات السابقة واللاحقة تجد أن كيسنجر يكون محقاً في أغلب الأحيان في تحليلها وتحليل نتائجها المستقبلية، حتى الأزمة الأوكرانية كتب عنها منذ سنين، وكان كعادته واقعياً.

لست هنا في هذا المقال نمدح أو نهاجم كيسنجر، بل محاولات لنكون واقعيين لأن كيسنجر نفسه كان واقعياً، قد لا يحبه كثير من العرب بسبب سياساته في الشرق الأوسط، وهذه آراء شخصية، لكن أعتقد أن الغالبية تتفق أنه كان شخصية استثنائية في مجاله سواء من يراه خيراً أو شراً أو محايداً، وكما ذكرت سابقاً لست مشجعاً كبيراً للواقعية الكلاسيكية بل نحبذ «الواقعية الجديدة» لكينيث ولتز الأب الروحي لـ«نيوريالزم» لأنه لها قدرة أكبر على فهم وتحليل العلاقات الدولية والسياسة العالمية.