فجيعةٌ تلك التي حلت على أرواحنا وقلوبنا في السادس والعشرين من رجب من عام 1433 للهجرة. فحزن الوطن حتى منابت العروق. غيب الموت رجلاً بحجم الوطن، غيب الموت رجلاً بحجم تاريخ الأمن والأمان. وحينما يُذكر الأمن وحيثياته وعباقرته، وحينما يُكتب عن الأمن وهمومه ورجاله التاريخيين في العصر الحديث، فلابد أن يُذكر الرجل العلم العربي الكبير صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله. فقد مثل سموه ـ رحمه الله ـ رمزاً حقيقياً وصريحاً لرجل الأمن القوي على هذا الصعيد. وهو الذي مثل له شخصياً أمن الوطن والمواطن الهاجس الأول والهم الأكبر، منطلقاً من إحساسه العميق بمسؤوليته التامة عن حياة أصغر طفل وأكبر كهل في أمته بأكملها، ومؤمناً بأنه لا وطن بلا أمن. فتحمل عبء أمن دولة مترامية الأطراف تعادل في مساحتها قرابة ثلث مساحة أوروبا. وهي الأمانة العظيمة التي أُلقيت على عاتقه وآمن بأهميتها القصوى لثبات الشعوب واستقرارها وازدهارها. تولى ـ رحمه الله ـ منصب وزير الدولة للشؤون الداخلية قبل 37 عاماً، وتحديداً في عام 1975م. فكان أن عاصر عددا من المتغيرات والتقلبات التي مرت على الوطن العربي. وعاش كمسؤول عن الأمن الداخلي للمملكة العربية السعودية قرابة أربعة عقود من التحولات الإيديولوجية، التي رسمت مخيلة العقلية الإنسانية على اختلاف انتماءاتها ونزعاتها. أسس خلالها مدرسة متميزة تعاملت مع كل مرحلة على حدةٍ، حسب معطيات ومتغيرات أزمانها وأماكنها، وأنجز باقتدار وحكمة عكستها شخصيته الفذة الصارمة، ما لا يمكن لغيره أن يُنجزه على أرض الواقع. وما زلت أتذكر إعلان سموه ـ رحمه الله ـ الأخذ بمبدأ العدل والإنصاف، الذي ورد في قوله تعالى في كتابه الكريم "لا تزر وازرة وزر أخرى".. كأساس ومنهج عادل تتعامل من خلاله وزارة الداخلية مع الجميع على قدم المساواة. وهذا تحول في السياسة الداخلية يشهد على شخصيته العادلة واستيعابها لمشهد السياسة الداخلية والخارجية العالمية. وشهد على براعته في الإمساك بزمام الأمور ومقاليدها بأكثر من طريقة تحقق في نهايتها راية العدل وتُرسي وتوطد دعائم الأمن للوطن والمواطن. وحين هبت على الوطن العربي رياح الفكر التآمري الدخيل الغريب، كان صاحب السمو الملكي نايف بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ مستعداً للتعامل مع مشهد اللوحة الجديد وألوانه المتداخلة. إذ لم ينتظر أن تتبعثر الخطوط وتتداخل الكلمات لتعقد المشهد. وقام بما يجب عليه القيام به كرجل سياسة قدير لا تربكه نوازل الأيام، أو قسوة الأحداث مهما تنوعت أوجهها وتعاظمت فداحتها. لقد أثبت تصديه ـ رحمه الله ـ لمخططات وعبث تنظيم القاعدة الإرهابي وأفعاله البشعة في السعودية، حجم وذكاء عقليته القيادية الناجحة سريعة البديهة. فكان ـ رحمه الله ـ الرجل الذي احتاجته المرحلة المعتمة والصعبة تحديداً. فقد كان ذلك التنظيم الظلامي الذي أراد تمزيق الوطن والعبث بأمنه وتشتيت راية الأمة، في أقوى حالاته وعنفوانه. وكان لابد من قامة بحجم صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ تتحكم وتدير الأمور كما ينبغي لها أن تكون. ويشهد تاريخ المملكة العربية السعودية والتاريخ العالمي، على الدور العظيم الذي لعبه سموه ـ رحمه الله ـ في قيادة الحرب على الفكر التكفيري والتنظيمات الإرهابية الضالة التي حولت الكثير من مناطق العالم إلى بؤر للإرهاب والفتنة. وقلدت السياسات العالمية طريقته الصارمة الذكية في كسر شوكة تلك التنظيمات، وتجفيف منابع دعمها وإضعاف قوتها حتى باتت أوهن من خيوط العنكبوت. اقتراحات كثيرة وحلول أكثر قدمها هذا الرجل في حياته لمجموعة هائلة من المشكلات. وأطروحات عظيمة طبقها أبو سعود ـ رحمه الله ـ من أجل رفعة ورخاء الوطن ومواطنيه. قيادة قوية محنكة من القيادات التاريخية الخبيرة التي خسرها هذا الوطن الكبير وغيبها الموت فجأة. ومناقب لا حصر لها ولا يتسع المقال لذكرها، أو الصحف لسردها.. تلك التي تمتع بها فقيد الأمة ـ رحمه الله ـ لكن أجلها وأبرزها على الإطلاق هو الأمن الذي تتمتع به بلاد الحرمين الشريفين أرضاً وسماءً وأهلا. ولا عزاء لنا في نايف بن عبدالعزيز، إلا في إخوانه الميامين الصابرين المؤمنين بقضاء الله وقدره.

وفي اختيار خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله لأخيه الأمير سلمان بن عبدالعزيز وليا للعهد ما يجعلنا مطمئنين إلى أن الخلف سائر على نهج السلف، فسلمان رجل دولة من الطراز الأول، وهو المتمتع بحب الشعب بمختلف فئاته وتوجهاته، كما جاء تعيين الأمير أحمد بن عبدالعزيز وزيرا للداخلية مسايرا لآمال العارفين بخبرته الأمنية الطويلة منذ 37 عاما وهو خير من يقوم بهذه المهمة.

ليرحمك الله يا أمير الأمن ويغفر لك، وأحسن الله عزاءك وعزاءنا يا أبا متعب.