وشهدت هذه القضية تطورات متواصلة خلال العقود الماضية، تكلّلت بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، ليكون خطوة تاريخية أساسية في منظومة الجهود العالمية التي تضمن حقوق جميع البشر وصياغتها في وثائق مكتوبة، بعضها استرشادي كالإعلانات والمدونات وقواعد السلوك، وبعضها ملزم كالاتفاقيات الدولية.
ومع التسليم بأن بعض الدول العظمى تمارس ضغوطا مكثفة لأهداف واعتبارات سياسية على المنظمات الدولية المعنية بمراقبة حقوق الإنسان حتى تغض الطرف عن بعض الانتهاكات والتجاوزات، إلا أن ذلك لا يصبح مبررا للاستمرار في تلك الخروقات، وتظل استثناءات وليست قاعدة، وقد يكون ذلك التغاضي مؤقتا وليس بصورة دائمة، فالحقيقة المؤكدة وشواهد التاريخ تثبتان أن من يستطيع الهروب اليوم من مسؤولياته عن تلك الانتهاكات سيجد نفسه حتما عرضة للمساءلة عنها في أي لحظة ومهما طال الأمد.
بنظرة سريعة على الواقع المحلي في المملكة نجد أن السعودية قد أولت هذه القضية ما يناسبها من الاهتمام والرعاية وحرصت عليها منذ توحيدها، فقد أبدت التزاما واضحا بحقوق الإنسان، وعملت على تعزيزها، وتشددت في مراعاتها وفرض احترامها لأنها من صميم ما جاءت به الشريعة الإسلامية التي اتخذتها دستورا ونظاما للحكم، وباتت صيانة حقوق الإنسان بمفهومها الشامل الواسع وتعزيزها ومنع التغول عليها واقعا على الأرض تعزّزه الأحداث وتؤكده الشواهد.
وحفلت نصوص النظام الأساسي بالعديد من المواد التي تؤكد ذلك، فالمادة (8) توضح أن الحكم يقوم على أساس العدل والشورى والمساواة بين الناس، فيما أكدت المادة (26) أن الدولة تحمي حقوق الإنسان وفقًا للشريعة الإسلامية. وبدورها أوضحت المادة (36) أن تقوم الدولة بتوفير الأمن لجميع المواطنين والمقيمين، ولا يجوز تقييد تصرفات أحد أو توقيفه أو حبسه إلا بموجب أحكام النظام. كذلك تشير المادة (37) على حرمة المساكن وعدم دخولها بغير إذن صاحبها، ولا تفتيشها إلا في حالة معينة يبينها النظام، كما تشدد المادة (38) على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على نص شرعي أو نظامي.
ورغم أن تلك الجهود الكبيرة والمساعي الحثيثة ارتبطت بالمملكة منذ إعلان قيامها، حيث تم سن القوانين والأنظمة، وكان ذلك هو المدخل الرئيسي للنهضة وتطبيقا فعليا لقاعدة أن العدل هو أساس الملك، إلا أن ما تشهده حاليا في هذا العهد الزاهر تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وعضيده وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - يمثل فصلا مشرقا ومسيرة استثنائية في هذا السياق، لا سيما بعد إقرار رؤية المملكة 2030، حيث تشهد بلادنا ولله الحمد ثورة تشريعية متكاملة الأركان كان لها عظيم الأثر في تعزيز هذه المبادئ وترسيخها وصيانتها.
فخلال السنوات الماضية نالت هذه القضية اهتماما متزايدا، وبذلت القيادة السعودية والجهات ذات الصلة جهودا كبيرة لأجل ترقيتها، والتناغم مع الموجّهات العالمية ذات الصلة. ومنذ إقرار الرؤية وحتى الآن تم إصدار 60 قراراً إصلاحياً تتناول حقوق الإنسان، وأصبحت السعودية بين 36 دولة أكملت الإيفاء بتعهداتها من جملة 197 دولة في العالم.
ومما يميز هذه المساعي أنها لا تقتصر على الجهد الحكومي فقط، بل إن منظمات المجتمع المدني أصبحت شريكة في تعزيز هذه القيم لترسيخها ضمن ثقافة المجتمع، حيث تتكامل الجهود لتعزيز قيم ومبادئ حقوق الإنسان. وتقوم هذه المنظمات بأدوار رائدة تستكمل الجهود الحكومية وتدعمها وتعزّزها، وقد أثبتت تلك المنظمات جدارتها وأهليتها للقيام بالأدوار المرجوة منها.
كذلك فإن مما يثير الإعجاب هو الرؤية المتكاملة التي تتبعها المملكة، فبينما تتواصل الطفرة التشريعية الهائلة التي تشهدها بلادنا في الوقت الحالي، فإن هناك تجاوبا منقطع النظير تبديه المؤسسات المختصة مع توصيات الآليات الدولية، وهو ما يتجلى في كون السعودية هي أول دولة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعتمد استخدام قاعدة البيانات الخاصة بتتبُّع تنفيذ تلك التوصيات، وهذا يؤكد أنها عازمة على الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها الطوعية. ويأتي ذلك متوافقا مع الرغبة الجادة النابعة من شعبها في التطوير المستمر لأدوات وآليات حقوق الإنسان الوطنية، وتفعيل الشراكة مع القطاع غير الربحي.
ولعل أبرز الخطوات التي عملت عليها بلادنا خلال الفترة الحالية ما يمكن أن نطلق عليه «مأسسة حقوق الإنسان»، وجعل أنظمة الدولة تتكامل في صيانة هذه الحقوق، وتحقيق العدل، وكفالة حرية التعبير، والتصدي لأسباب التفرقة ودواعيها، وعدم التمييز، فما تحقق للمرأة السعودية من إنجازات في هذا العهد أصبح مصدر فخر واعتزاز لكل السعوديين.
وبالتأكيد فإن ما تحقق من إنجازات في هذا المجال كان نتيجة لعمل جاد وجهود متواصلة شاركت فيها كل الجهات ذات الصلة، بدعم لا محدود من القيادة الحكيمة التي لا تكف عن استشراف مستقبل أفضل في كل المجالات، مع سعي حثيث متواصل لاحتلال مراتب أكثر تقدما، ومواصلة للسير في الطريق الذي رسمته رؤية 2030، لتصبح المملكة هي الدولة الأكثر ريادة على مستوى العالم في مجال حقوق الإنسان.