لماذا تأخر العرب وتقدم الآخرون؟ سؤال إشكالي مركزي شغل حيزًا كبيرًا في الفكر العربي المُعاصِر والحديث، وطُرِحَ بصيَغٍ مُختلفة ومن خلفيّاتٍ إيديولوجيّة مُتناقِضة.. فهل هذا التخلف بنيوي لا يُمكن تجاوزه أو استئصاله أم هو عائد إلى عوامل تاريخية أو سياسية أو إلى هَيْمَنَةِ الغرب التي فَرضت علينا حداثةً شوهاء منزوعةً من عقلها الحداثي أم أنه يرجع إلى أنّ ثمّة قطيعة بيننا وبين تراثنا الذي به ارتقت حضارتُنا إلى مقدّمة الحضارات الإنسانية؟

يستعيد المفكر السياسي حازم صاغيّة في كتابه «في أحوالنا وأحوال سوانا» (دار الساقي 2003) هذه الإشكالية، من موقع التشديد على الدور الذاتي، وأول هذا الدور «يطال مكافحتنا نظامَ القرابة الموسع - طائفية، إثنية.. مما كافحه غيرنا ممن تقدموا»، ذلك أن نَيْلَنا حقوقنا وإقرار الآخرين بعدالة قضايانا لن يحصل ما لم نفعل ما يتعدى هجاء الغرب.

ادعاء التبعية للغرب


لا ينفي المؤلف انحيازَه إلى ليبراليةِ الغرب، بل هو نبَّهَ إلى ذلك في المقدمة، لأن التقدم الذي حصل خارج الغرب جيء به، في رأيه، من الغرب، ولأن النماذج المُناهضة للغرب التي عرفها القرن الماضي ليست مُقنعة بأي معنى كان وعليه، يرفض صاغية رد الإشكال الحضاري العربي إلى الحقبة الاستعمارية؛ ففي هذه الحقبة أَحرز المثقفون الشرط الأوّل للعمل الثقافي، وهو الحرية وما يصاحبها من نزعاتٍ نقدية ونقاشٍ عام، في عام 1902 اندلعَ السجالُ بين محمد عبده وفرح أنطون حول الدين والحرية والعِلم والعَلمَنة، وفي عام 1925 دعا علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحُكم» إلى فصل الدين عن الدولة، وفي عام 1926 كَتَبَ طه حسين «في الشعر الجاهلي»، وفي عام 1937 وَضَعَ إسماعيل أدهم رسالته «لماذا أنا ملحد؟».

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر أنشئت دار الكُتب المصرية وصَدرت صحفٌ ومجلاتٌ مثل «الأهرام» و«المُقتطف» و«المقطم» في مصر، و«حديقة الأخبار» و«نفير سورية» في لبنان، وفي هذه الحقبة أيضاً، تعرَف العالَمُ العربي إلى المسرح والفن الروائي والسينما، وذلك كله كان على صلةٍ بالغرب والثقافة الغربية التي تأثر بأفكارها ومبادئها رواد نهضتنا الحديثة، من رفاعة الطهطاوي وبطرس البستاني إلى جرجي زيدان وطه حسين، مرورًا بجبران خليل جبران، وأمين الريحاني، ومن دون أن يذهب هؤلاء إلى ادعاء التبعية الكاملة للغرب أو أبوته لنا.

لم يكن المثقفون في هذه الحقبة، في رأي المؤلف، على رداءة زملائهم اللاحقين، بل كانوا أَفْعَل وأشدّ تأثيرًا، فقد أستبعدت تلك الرؤية المتنورة للتاريخ ولوظيفة المثقفين التي ميَّزت الجيل السابق، بعد نشأة الإخوان المسلمين في عام 1928، ونكبة فلسطين في عام 1948، وانقلاب جمال عبد الناصر في عام 1952، ليحل محلها الالتحاق بالسرديات الشعبوية والاتجاه إلى عسكرة الثقافة.

في هذا الوقت راجت نظريات المنظر الشيوعي الايطالي أنطونيو غرامشي في «المثقف العضوي» حيث خَنَقَ العضوي الثقافي وقيده بمهماتٍ يصعب ردها إلى الثقافة، في حين لم يكن الالتزام هو قضية المثقف، بل الديمقراطية التي أساسها الحريات العامة، وقد انتهت تجارب مثقفينا العضويين، حتى مع أحزابهم وقياداتهم، إلى المهانة والأذى الذي بَلَغَ حد القتل، وفيما نزل بفرج الله الحلو، ورئيف خوري وصلاح الدين البيطار، وعبدالخالق السمرائي، وسواهم أدلة ساطعة على المآل البائس للمثقف العضوي والثقافة على السواء، فقد أسفر ذوبان الثقافة في السياسة عن ضمورِ الإبداع الثقافي، وتراجُعِ الدور المركزي للمثقفين في الدفاع عن الحرية.

استحضار ابن خلدون

إزاء القاموس السياسي العربي السائد الذي بات مُثقَلاً بحديث العصبيات المذهبية والطائفية والإثنية والجهوية، استحضرَ المؤلف نظريةَ ابن خلدون في «العصبية» لما تتميز به من راهنيةٍ لفَهْمِ مُجتمعاتنا العربية، فما يُعانيه العالَمُ العربي من تفكُّكٍ وأزماتٍ وصراعاتٍ يَجِدُ تفسيرَه في سياساتِ العصبية، إذ إن «الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تَستحكم فيها دولة» على ما رأى ابن خلدون.

ينطبق ذلك على حالات اليمن ولبنان وليبيا والعراق وفلسطين، وغيرها لانتفاء غلبة عصبية «أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب منها وتتم الرئاسة لأهلها».

أما الإصلاحُ الديني الذي دشَّن عصرًا جديدًا في الغرب، فلا يعوِّل المؤلف على إصلاحٍ مُشابهٍ له مُمكن في الإسلام في الظرف العربي الراهن لافتقاره إلى حاملٍ اجتماعي يرتكز عليه، على عكس الإصلاح الأوروبي الذي جاء جزءًا من عملية تاريخية عريضة وسَّعت نِطاق الحرية والفردية، وفي مقابل الصعود الشامل الذي أحاط بالإصلاح الأوروبي، يغمرنا في العالم العربي اليوم محيط من التراجع والتبديد يتسع بإيقاعٍ يومي، حتى إن ما كان مُتاحًا مع محمد عبده ثم تلاميذه يبقى على تواضعه أكبر بلا قياس مما هو مُتاح اليوم.

ترافَقَ هذا التراجع مع تدميرِ مُدنٍ ثلاث من مُدن المشرق العربي هي من أهم مدنه وأعظمها الموصل في عام 2014، وحلب في عام 2016، ثم بيروت في عام 2020، وقد عمدتِ الأنظمة والأحزاب السلطوية إلى تطويع المُدن، 2 في المائة فقط من قيادة الحزب الحاكم في سورية إبان 1963 - 1966 كانوا دمشقيين، و8 في المائة حلبيين، بينما وصلَ عدد أفراد التنظيمات الفلاحية الموالية للنظام إلى 46239 في عام 1990، وتعرضت بيروت لمَوجةِ نزوحٍ وسلسلةِ حروبٍ تأدى عنها طرد السلطة المركزية وتسليم المدينة إلى ميليشيات الطوائف. وبدلاً من أن تؤدي هجرة أبناء الريف إلى تمدينهم، فقد أقاموا في المدن بكل حمولاتهم الاجتماعية السابقة، وهكذا امتلكت روابط كالعشيرة والقبيلة حضورًا يفوق حضورَ الاشتراك في جماعةٍ مدينية، الأمر الذي حدا بالمؤلف إلى القول باستحالة المدينة، وإلى تفضيل بل تبني الليبرالية مقابل الإيديولوجيات القومية والماركسية والإسلامية، فالليبرالية أساسها الأول الاعتقاد بأن الحرية هي القيمة السياسية الأولى، وأن الفرد يتقدم على الجماعة وبقيمة قائمة بذاتها، وبكرامة وفرادة إنسانيتَين، وأنه وحده صاحب القرارات التي تتعلق بحياته؛ ولذلك فإن قرارات الأفراد التي لا تنبع من دينٍ أو تقليدٍ موروث أو عواطف، هي وحدها القرارات العقلانية، فالمعرفة من منظورٍ ليبرالي ليست نصًا مقدسًا أو شبه مقدس، بل هي التفحص العلمي والنقدي الحر والمتواصل.

«في أحوالنا وأحوال سوانا» يشكل إضاءةً على جوانب واسعة من فكرنا السياسي والاجتماعي المُعاصِر، فقد طَرَحَ إشكاليات هذا الفكر بكل خلفياتها التاريخية، من منظورٍ عقلاني نقدي يحرض على الخروج من الانتماءات الضيقة، القرابية أو الطائفية أو المذهبية، والانطلاق من دون أية قيود في فضاء الحريّة الإنسانية الرحب، ولعل في ذلك سر الإجابة عن سؤال «لماذا تخلفنا وتقدم سوانا؟» الذي لا يزال يدور حوله فكرُنا العربي منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم.

*كاتب من لبنان

ينشر بالتزامن مع دورية «أفق»