قديما وليس بذلك الزمن البعيد، لم يعتقد الأطباء أن البكتيريا يمكن أن تعيش في المعدة على الإطلاق. كانوا يعتقدون أن هذه المعدة حصينة بحمضيتها العالية جدًا، حتى عام 1984، حين تناول طبيب أسترالي شاب يدعى ( باري مارشال) خليطًا – لا ننصح به إطلاقا – من مرق اللحم البقري المملوء ببكتيريا الملوية البوابية – ما يعرف اصطلاحا بجرثومة المعدة – وفي اليوم الثامن بدأ يتقيأ. في اليوم العاشر، أظهر منظار المعدة أن جرثومة المعدة قد استعمرت معدته، وكان شكلها الحلزوني المميز لا لبس فيه تحت المجهر.

إذا تُركت جرثومة المعدة دون علاج، فإنها عادةً ما تؤدي إلى الإصابة بالعدوى التي تستمر مدى الحياة، وهي شائعة: إذا ما علمنا أن نصف سكان العالم يؤوي جرثومة المعدة داخل معدتهم. في معظم الحالات، يستقر الميكروب في عدوى مزمنة دون أعراض، ولكن في بعض الحالات، يصبح الأمر أكثر إزعاجًا بكثير. يمكن، على سبيل المثال، أن يسبب ضررًا كافيًا لبطانة المعدة لتكوين تقرحات. والأسوأ من ذلك أن جرثومة المعدة يمكن أن تؤدي إلى السرطان. هذه البكتيريا المنفردة هي عامل الخطر الأول لسرطان المعدة في جميع أنحاء العالم. وبحسب أحد التقديرات، يمكن أن يُعزى حوالي 70 % من حالات السرطان إليها.

لكن ما يحير الأطباء بعد مرور سنوات هو السبب في أن جرثومة المعدة لها عواقب مختلفة على أشخاص مختلفين. لماذا لا تظهر أعراض لدى معظم الأشخاص ولكنها مسرطنة لدى البعض الآخر؟ على الرغم من أن الإجابة الكاملة معقدة، يبدو أن أحد العوامل الرئيسة هو الطفرات الجينية في بكتيريا جرثومة المعدة نفسها. إن وجود جينات منتقاة يؤدي إلى تكثيف القدرة المرضية لبكتيريا جرثومة المعدة، وحتى أن حدوث طفرة واحدة في جين واحد – كما اكتشف العلماء مؤخرا – يعزز الارتباط بالسرطان. يمكن أن يكون لتعديل جيني صغير في جرثومة المعدة الشائعة عواقب وخيمة بالنسبة للمصابين.


عاشت جرثومة المعدة داخلنا لفترة طويلة. ومن المرجح أن أسلافنا قد حملوها بداخلهم. وعلى مدار ما يفترضه بعض العلماء أنه أكثر من 100 ألف سنة من التطور المشترك، تكيفت بشكل رائع مع الظروف القاسية والحمضية للمعدة البشرية لكي تتكيف وتبقى على قيد الحياة، فإنها على سبيل المثال تنتج «كميات وفيرة» من الإنزيم الذي يحيد حمض المعدة، كما يمكن لجرثومة المعدة أيضًا أن تحفر في بطانة الهلام المخاطي للمعدة باستخدام أسواط قوية. توفر البطانة المخاطية ملاذًا نسبيًا من حمض المعدة، ولكن هناك جائزة أخرى تكمن تحتها أيضًا: خلايا المعدة الغنية بالمواد المغذية التي تحتاجها البكتيريا للبقاء على قيد الحياة. الطريقة التي تحصل بها جرثومة المعدة على العناصر الغذائية يمكن أن تكون المفتاح لكيفية تسببها في النهاية بالسرطان. ليس من الضروري أن تؤذي البكتيريا مضيفها البشري كما أنها لا تريد أن يصاب الشخص بقرحة أو سرطان، ولكنها تحتاج إلى التكاثر بمستويات عالية بما يكفي في المعدة بحيث يمكن أن تنتقل إلى شخص آخر. ولكي تفعل ذلك، فإنها تحتاج إلى العناصر الغذائية، وخاصة الحديد.

بناءً على ذلك، طورت سلالات معينة من بكتيريا جرثومة المعدة تغيرات جينية قد تجعل عملية استخراج الحديد أكثر كفاءة. ولكن هذا يسبب أيضًا المزيد من الأضرار الجانبية لمعدة المضيف، وربما يكون الضرر كافيًا لإثارة السرطان في النهاية. أولًا، تستخدم البكتيريا بروتينًا معينًا وهو في الأساس «زوج من المقصات الجزيئية»، لقطع الروابط التي تربط خلايا المعدة ببعضها البعض، حتى تتمكن الميكروبات من الانزلاق بينها. طفرة واحدة في هذا البروتين المقص تجعله أفضل في القطع، وعثر على هذه الطفرة في سلالات جرثومة المعدة المعزولة من الأشخاص الذين أصيبوا بسرطان المعدة.

وبمجرد أن تحشر جرثومة المعدة نفسها بين الخلايا، فإنها تمتلك أيضًا طرقًا ذكية للوصول إلى العناصر الغذائية الموجودة بداخلها. تحمل سلالات معينة مجموعة مكونة من حوالي 18 جينًا، تعمل بشكل جماعي على تشفير إبرة جزيئية تحقن من خلالها جرثومة المعدة البروتينات البكتيرية، مما يؤدي إلى سلسلة من التغييرات في الخلية. تنتهي هذه الخلايا المختطفة بالتخلي عن الحديد بسهولة أكبر، لكنها تصبح أيضًا أسوأ في الوظائف الأساسية مثل إصلاح الحمض النووي التالف. هذه المجموعة المكونة من 18 جينًا تقريبًا، والتي يطلق عليها مجتمعة «جزيرة التسبب في المرض»، توجد في الواقع في مرضى السرطان. ومن ثم نستطيع القول إن سرطان المعدة قد يكون نتيجة ثانوية لبحث الميكروب العدواني عن العناصر الغذائية.

ولكن ليس كل من يصاب بإحدى هذه السلالات المرتبطة بالسرطان سيصاب بالسرطان. من المحتمل أن تلعب عوامل أخرى دورًا أيضًا: النظام الغذائي، والبيئة، وعلم الوراثة لكل مريض.

تختلف معدلات الإصابة بسرطان المعدة بشكل كبير حول العالم، مع أعلى معدل انتشار في شرق آسيا. في اليابان على سبيل المثال، يختبر الأطباء بشكل روتيني بكتيريا جرثومة المعدة لدى الأشخاص الذين لا يعانون من أعراض، ويصفون المضادات الحيوية إذا جاءت الاختبارات إيجابية. لكن بعض العلماء عارضوا هذا الأسلوب العلاجي، ملمحين إلى أن البشر يستمدون بعض الفوائد من التعايش معها أيضًا. على سبيل المثال، يحظى المصابون بنسب إصابة منخفضة بالربو والحساسية.

قد تتساءل ماذا حل بالطبيب الأسترالي الشاب مارشال الذي أصاب نفسه بالبكتيريا. لأخبرك.. إنه تعافى في النهاية، أثبتت تجربته الذاتية، إضافة إلى دراسات أخرى مع مساعده (روبن وارين)، أن البكتيريا تصيب المعدة وتسبب قرحة بالفعل، مما حفز لاحقًا العمل الذي يربط جرثومة المعدة بالسرطان.

في الأربعين عامًا الماضية، أصبحت أهمية جرثومة المعدة بالنسبة لصحة الإنسان أمرًا لا جدال فيه، لدرجة أنه في عام 2005، حصل مارشال ووارين على جائزة نوبل في الطب.