أما البطولة فنحسب أن لها من تعدد المعاني ما يقتضي التوضيح والتحديد ثم اختيار المعنى أو المعاني التي قد يشملها العنوان ويدور عليها الحديث وأول ما يعرض من معانيها أن يقصد بها «بطولة الحرب» وما ينطوي فيها من الفروسية والقوة والغلبة. ولهذا المعنى، أو المضمون» - كما يحب المحدثون أن يقولوا - صورتان من التعبير:
أولاهما - ما أطلق عليه الباحثون الغربيون اسم الشعر القصصي أو «شعر الملاحم»، وهو ما يجتمع لشاعر نظم قصيدة طويلة يقص فيه ضروب البطولة التي تمثلت في رجل فرد، أو في عدد من الرجال الأبطال أو يؤرخ فيها حوادث أمة في فترة بعينها من تاريخها، فيصوغ ما انحدر إليه ممن سبقه من أخبار الوقائع وصور الحوادث، ويتسلسل بها في أسلوب قصصي متتابع.
والصورة الثانية من صور التعبير عن «بطولة الحرب» هي التي أطلق عليها العرب القدماء اسم (شعر الحماسة) وهي هذه القصائد والمقطعات المتفرقة التي ينظمها شعراء متعددون، يفخرون فيها بأنفسهم أو بإبطال قبيلتهم وقومهم ويشيدون بما أبدوا من ضروب القوة والفروسية، وما أتيح لهم من أسباب النصر والغلبة. فيدور قصيدهم حول شتيت من المعاني المتفرقة لا ينتظمها أسلوب قصصي متابع ولا استقصاء لا جزاء الحوادث والوقائع، وبذلك، لا يتم لها استكمال صورة واضحة المعالم لسير موقعة أو لإعمال فرد أو لحياة أمة.
اما المعنى الثاني للبطولة فيتسع حتى يشمل «بطولة النفس» في كل ما يتمثلها به المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، فيصبح البطل مثلا يحتذى في: الصبر على الشدائد، وتحمل المشاق، ونجدة المضاف وإغاثة الملهوف، وبذل ما في الوسع - وفوق ما في الوسع - قرى للضيف ونائلا للسائل، وفي: الحكمة ورجاحة العقل وسداد الرأي والمنطق والعلم عن قدرة، والوفاء بالعهد، والحفاظ على الذمام، واباء الضيم، والترفع عن الدنايا، والتحلى بكل ما يراه مجتمعه فضيلة في النفس والخلق.
وثالث هذه المعاني أن يقصد بالبطولة معنى اصطلاحي في النقد الأدبي حين يكون البطل في الأثر الغني هو «الشخصية الأولى» أو مجموعة الشخصيات الرئيسية» التي يرمز بها لتصوير صفات بعينها تمثل جوانب في حياة الناس والمجتمع، يكون فيها الخير والشر والقوة والضعف، والوفاء والقدر، والحب والبغض، فتدعو إلى الإعجاب والمحاكاة، أو إلى الازدراء والنفور.
أما القضية الثانية من مقدمات هذا الموضوع، وهي التي تتمثل في الشق الأخير من العنوان، فهي قضية «الأدب الجاهلي». والحديث عن هذه القضية حديث عن مصادر هذا البحث وأصوله، وبيان لقيمتها التاريخية والفنية. ولهذا الحديث جانبان: أولهما - الشعر الجاهلي وأحسب أن قضيته قد فرغ منها بعد أن صححت الدراسة العلمية الحديثة موازينه، وهدأت الضجة التي افتعلت من نحو ثلاثين عاما، وتكلف أصحابها من العناء والمشقة في قسر النصوص وتحميلها ما لا تحتمل من الدلالات وفي تعميم الأحكام الجزئية تعميمًا واسعًا يبعد بها من الصواب - تكلفوا في كل ذلك ما أثار حولها وحولهم غبارًا كثيفا لفت الأنظار وغشاها حينا، ثم انقشع ولم يبق منه - في مقاييس العلم الصحيح - شيء سوى آثار يسجلها مؤرخ الأدب حين يعرض لهذه الحقبة من تاريخنا.
ولا تحسب أن باحثًا جادًا يتبع ما جد من الدراسات الحديثة في هذا الموضوع، لم يستقرئ أصوله القديمة استقراء قائمًا على الفهم والبصر والمعرفة بحياة القوم، لا تحسب أن باحثًا هذا شأنه إلا وهو يدرك أن الدراسة الحديثة بشقيها: الداخلي الذي ينقد النصوص نقدًا فنيًا، والخارجي الذي يتتبع مصادرها تتبعا تاريخيا، قد أثبت لهذا الشعر في مجموعه - الصحة والأصالة، وإن كان عرض لبعضه ما يعرض - مع التفاوت - لآداب الأمم كلها في جميع العصور من وضع البعض الشعر أو نحل، ومن اضطراب في نسبة بعضه وفي روايته الأسباب تاريخية معروفة.
والجانب الثاني للأدب الجاهلي هو: النثر. ولا نقصد به هذا القدر من العبارات القليلة التي بقيت من تراثنا، من مثل: سجع الكهان، والتلبية والحكم، والأمثال، فهذه كلها قد تزود الدارس بإشارات ودلالات يستخلصها منها ويرتب عليها بعض الأحكام، ولكنها في مجال هذا المقال لیست بذات غناء.
وإنما نقصد بالنثر هذا التراث الخصب الذي خلفته لنا الجاهلية من سير رجالها ونسائها وحوادث قبائلها وأيامها، وصور مجتمعها وحياتها، بأدق تفصيلاتها وأوضح معالمها، وتناقله الأفراد والأجيال - كما يتناقل التراث القومي في كل مقالي دون بعد زمن فبقي لنا في طيات كتب الأدب والتاريخ والنسب، وامتلات به صحائف مما كتب أبو عبيدة على النقائض، ثم الجاحظ والمبرد وابن قتيبه والطبري، ثم ابن الانباري في شرحه على المفضليات، وما جمعه لنا ابو الفرج في أغانيه، وابن عبد ربه في عقده وغيرهم.
ومن هنا نتلمس بداية الطريق، فهذا النثر الذي تأخر تدوينه قرنا وبعض قرن هو ميراث الجاهلية في مادته كلها، تناقلته الجاهلية تناقل الحفى به، والحريص عليه، الحافظ له كانوا يتناشدون شعره ويقصون نثره في مجالسهم ومواسمهم وأسواقهم وسمرهم، يتنافرون ويتفاخرون وينقطع لرواية الشعر والأخبار رواة يتفرغون بعينه فينسبون إليه، ورواة من القبيلة لا يقتصرون على شاعر منها وإنما يجمعون بين شعرائها كلهم، يروون من شعرهم وأخبار ذلك الشعر مفاخر القبيلة في وقائعها ومحامدها، ومضوا على ذلك رواية بعد رواية وجيلا بعد جيل، إلى أن قيض لهذا التراث التدوين والتسجيل. وذلك شأن كل تراث قومي في كل أمة كذلك كانت الإلياذة والأوديسة، وكذلك كانت المهابهارتا والرمايانا تناقلها الرواة وتناشدها الناس، ثم مضت على ذلك الزمان إلى أن دونت. ولو أخذنا أيام العرب في الجاهلية يومًا يومًا، لوجدنا في كل يوم من الأخبار القصصية ومن الشعر الحماسي، وما يطوي في ثناياه خصائص الملاحم كما عرفتها الأمم الأخرى: فأولاها - أنه أدب قصصي، يحكي في تسلسل وتتابع قصة واحدة أصلية قد تتشقق منها قصص تتصل بها وتوضح بعض جوانبها.
وثانيتها - أن هذا الأدب يقص وقائع وحروبا تقتل فيها قبائل ويصطرع فيها أبطال ويسقط فيها صرعى وتسيل دماء، وتظهر فيها آيات من البطولة والشجاعة والقوة.
وثالثتها ـ أن هذا الأدب يصور في كل يوم من أيامه نماذج بشرية ذات ملامح واضحة وقسمات بارزة سواء كان ذلك في شجاعتها وقوتها أم في فضائل نفسها وخلقها.
ورابعتها - أن هذا الأدب لم يصطنعه واحد بعينه في زمن متأخر، كما فعل فرجيل في إلياذته، والفردوسي في شاهنامته، وملتون في فردوسه وإنما جرى في النفوس مع الوقائع ودار على الألسن مع الحوادث، فهو ميراث الأمة كلها، وهو تراثها الشعبي كما نقول اليوم، وكذلك كانت الملحمتان اليونانيتان والملحمتان الهنديتان.
1959*
* كاتب وباحث أردني «1922 - 2015».