تعد الممارسة النظرية للفلسفة، أي التفلسف لإنتاج المفاهيم وتوليد الحقائق ممارسة حوارية، فقد نشأت وترعرعت الفلسفة اليونانية بالحوار، وكان الديالكتيك (الجدل) وهو في معناه اليوناني فن الحوار والنقاش، منهج الفلسفة منذ هيرقليطس المطابق لطبيعة الديموقراطية الأثينية المباشرة التي تجلّت في حوارات عامة بين مواطني أثينا في الساحة العامة، فالجدل (الحوار) هو حركة الكلام أو الحديث المطابق للوجود في صيرورته، وهو الأسلوب الأمثل لتوليد الحقائق والتعليم كأسلوب السوفسطائيين وسقراط الذي خرج منهم وعليهم، وجال في شوارع أثينا يعلم ويناقش، وأصبح الحوار السقراطي البعيد عن الأبوية والفوقية نموذجا يحتذى لإتاحة المجال للمتلقي لأنه يكتشف في ذاته حقائق ومعارف كان يعتقد أنه لا يملكها، وانحاز إلى أسلوب الحوار والمناقشة بدلا من الكتابة التي لا تحقق التفاعل والتواصل المطلوب، أما تلميذه أفلاطون فقد أقام فلسفته ونصّب أستاذه سقراط ليكون بطلا ينطق باسمه في الحوارات، واستمر الحوار نهجا ثابتا في الفلسفة الغربية في العصور الوسطى والحديثة.

في موسوعة لالاند الفلسفية (DIALECTIQUE): تعني بالمعنى التربوي التعليم بالحوار. وذكر لها جملة من الاستخدامات قديما: فن المحاورة والمساجلة؛ ومن ثم:

أولا: فن التحاور بمقابساتٍ بأسئلة وأجوبة. ثانيا: فن تقسيم الأشياء إلى أنواع وأصناف (بكلام آخر، فن تصنيف المفاهيم) للتمكن من فحصها ومناقشتها.

لكن هذه المفردة ومع النقاد المحدثين أخذت مفهوما محددا متطورا لشكل محدد من الحوار والتفكير. يقول لالاند: "جرى استعمال الكلمة لدى النقاد المحدثين، في مجرى كلامهم على مذهبه، أي أفلاطون، للدلّ بنحو عام على حركة الفكر الذي ينتقل من الحسيّات إلى الأفكار".

من هنا ترجم المترجمون العرب هذه المفردة إلى "الجدل" كما عند مترجم موسوعة لالاند خليل أحمد خليل. وقد فرّق أرسطو بين الجدل والتحليل: فبينما يرمي التحليل إلى البرهان، أي الاستنتاج الذي ينطلق من مقدمات صحيحة، فإن الجدل يرمي إلى الاستدلالات العقلية التي تتناول آراء محتملة.

ويتابع لالاند "إن الجدل فنّ وسط بين البيان والتحليل..، وهذا المعنى يتحدّر من معنى سقراط وأفلاطون: لأن المقدمات التي كانا يستدلان بها إنما كانت هي الآراء الجارية، المتولّدة والمتوضحة بمنهج الحوار والتساؤل". وإذا أمسكنا هنا بوصف الحوار بكونه منهجا يمكن أن نقول إن الحوار هو منهج للتواصل وللتفكير والجدل طريقة من طرق هذا المنهج. نتابع مع لالاند في تتبعه لتاريخ "الجدل" يقول: "بعد ذلك، ومنذ العصر الإغريقي المأثور، كان للكلمة معنيان حافظت عليهما عند المحدثين: أولهما معنى تقريظي: منطقي، قوّة الاستدلال؛ "مجادلة دقيقة"؛ ثانيهما معنى ازدرائي: مهارات، شطارات حاذقة وغير مفيدة.

هذا المعنى الثاني التقريظي نجده عند إخوان الصفا حيث يعرفون الجدل بقولهم "إن الجدل هو أيضا صناعة من الصنائع، ولكن الغرض منه ليس هو إلا غلبة الخصم والظفر به كيف كان، ولذلك يقال: الجدل فتل الخصم عما هو عليه إما بحجة أو شبهة أو شعبة وهو الثقافة في الحرب والحرب كما قيل خدعة وهو يشبه الحرب والمعركة إذ الحرب خدعة. وفي عصر التنوير الأوروبي ومع كانط kant استمر هذا المعنى التقريظي للجدل فهو عنده يطلق على كل الاستدلالات الوهميّة، ويحدد الجدل عموما بأنه "منطق المظهر".

إلا أن هيجل جاء بعده ليسترجع كلمة "جدل" بمعنى استحساني، إنما حدّها بأنها "التطبيق العملي للتقيد بالقوانين، الملازم لطبيعة الفكر". ومن هنا جاء الاستعمال الواسع لـ "جدل" بعد هيجل،حسب لالاند، بداية في ألمانيا، ثم في الفرنسية حديثا، للدلالة على كل الترابطات الفكرية التي يتدرب الفكر على سلاسلها وأنساقها رويدا رويدا، دون أن يستطيع التوقف عند شيء مرضٍ قبل المرحلة الأخيرة.

يستعرض الدكتور حسن حنفي تاريخ الحوار في الممارسة الفلسفية. يقول: "... يعني الحوار في الاشتقاق اليوناني، الحديث المزدوج أو الحديث بين طرفين. وهو مكوّن من لفظين أي الكلام "عبر" أو "من خلال" أو "مع" أي الحديث في الزمان. ولا يشير بالضرورة إلى الآخر. استعمله سقراط في الحوار مع السوفسطائيين، وأفلاطون في الجدل الصاعد والجدل النازل، أي في العلاقة بين الفكر والواقع، بين المثال والمادة، بين العقل والحس، كما هو الحال في نظرية المثل الشهيرة. كما استعمله أرسطو في المنطق كأحد أجزاء منطق الظن مع السفسطة أو المغالطات والخطابة والشعر. وظلت هذه الاستعمالات الثلاثة، سارية في العصر الوسيط بمرحلتيه، عصر آباء الكنيسة الأفلاطوني والعصر المدرسي الأرسطي. ثم استعمله كانط Kant في "نقد العقل الخالص"، بمعنى التناقض الذي لا يمكن حلّه عقليا، مثل خلق العالم وقدمه، خلود النفس وفناؤها، حرية الإنسان وجبريته. ولا توجد براهين على صحّة أحد النقيضين وخطأ الآخر. والحل هو طريق الإيمان. ثم تحول عند هيجل إلى منهج عقلي منطقي اجتماعي تاريخي في آن واحد، يكشف عن التناقضات في الأشياء قبل حلّها في مركبات بينها، من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى مركب الموضوع. ثم حوله ماركس إلى جدل مادي تاريخي، فيما يعرف باسم "المادية الجدلية" لا مركب فيه، كما هو الحال عند كيركجارد، وتجليا للاشتباه Ambiguity في الوجود الإنساني، لذلك سمى جابريل مارسل فلسفته، "السقراطية الجديدة".