فطبيعة الأزمة التاريخية الفلسطينية تعود للبعد التكويني الذي غذاه المستعمر الإنجليزي وتبنته السياسات الأمريكية صاحبة المصلحة الكبرى والداعم الفعلي لإسرائيل.
فهذه الحرب الدائرة في غزة تجمعت حولها مصالح كثيرة ومتنافره، واستطاعت أجهزة الإعلام الغربية والذهن السياسي الغربي أن يرسخ في أذهان الغرب أن الحرب ذات طبيعة دفاعية [حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها] وذلك لتحميل الفلسطينيين مسؤولية الحرب متجاهلة أن الإنسان الفلسطينيي يدافع عن وجوده وأرضه وشعبه.
فعلاقة إسرائيل بالوجود الفلسطيني لا تقوم على ضوابط ومبادئ إنسانية وإنما تقوم على السيطرة والهيمنة والاستعلاء والاعتداء والحصار والتجويع وسحق الآخر، وعدم الاعتراف باستقلاله وحرية قراره.
فإذا كانت إسرائيل لا تشعر بالندية مع فلسطين في الجانب المادي - إذ أن الفجوة هائلة ما بين القوة المادية الإسرائيلية والقوة المادية الفلسطينية - إلا أنه في الجانب المعنوي والنفسي والمستقبلي فإسرائيل تشعر بأن الفلسطينيين ندا منافسًا، وهذا ممكن فالخوف والفزع لدى الإسرائيليين، ولد العداء السافر وهذا يرجع إلى الضعف المعنوي الذي تعاني منه إسرائيل وأوجد لها أزمة مفزعة، وما هذه الحرب الفظيعة إلا ظاهرة من ظواهر عدم الثقة وانهيار المعايير المعنوية والنفسية.
فإسرائيل اليوم، فقدت تماسكها الداخلي، فلم تعد تشعر بالأمن، وأن المستقبل لا يحمل ما كانت تتوقعه، فخلف الواجهات الزائفة الإسرائيلية يكمن الخوف والفزع.
وإن كان الخطر الاستراتيجي الأكثر تهديدًا لإسرائيل يأتي في الأساس من جانب القوة الجغرافية، إذ لم يعد مصدر التهديد متمركزًا في مصدر وموقع واحد، والخطر الآخر الذي تخشاه إسرائيل في هذا العالم المتغير أن الولايات المتحده الأمريكية على المدى البعيد قد لا تستطيع حماية إسرائيل بالصورة التي هي عليه اليوم مع ظهور قوى وتحديات جديدة ومنافسين عالميين جدد فإسرائيل نشأت أساسًا من تناقضات المصالح بين القوى العالمية، في وقت كانت فيه السياسة لعبة المصالح، وكانت فيه الأخلاق الإنسانية خارج السياسة، وهي إستراتيجية سياسية يقوم عليها الفكر السياسي الأمريكي تحددها القدرة التسليحية والاقتصادية والتفريق بين العدل والحق من ناحية والقوة من ناحية ثانية.
فالأدوار التي مرت بها القضية الفلسطينية سواء من ناحية الملابسات السياسية الدولية أو من ناحية الأخطاء التي وقع فيها السياسيون الفلسطينيون في مختلف أطوار معالجتهم لهذه القضية وبخاصة قضية القدس والصدمة التى تلقاها الفلسطينيون من سياسات الخداع التي لم ينتبه لحقيقتها الساسه الفلسطينيون بل لم يكونوا قادرين على فهمها في ظل المتغيرات الدولية، والتي أصبحت لدى الفلسطيني بمرور الزمن وكأنها قدر تاريخي غير قابل للتجاوز أورثت هذه التصدعات الكبيرة في القضية الفلسطينية وبخاصة قضية القدس.
ففي دراسة للدكتور يوسف الحسن عن مدينة القدس يفند فيها المفاهيم المغلوطة ودعاوي إسرائيل المضللة حول المدينة، فقد تعرض الدكتور الحسن للإشكاليات التي يطرحها السياسيون الغربيون برؤية نقدية عميقه مستخدمًا قدرته المعرفية ومستشهدًا بحقائق التاريخ ودلالات الواقع وتحليل حجج الخصوم، فإسرائيل كما يقول الدكتور يوسف الحسن قدمت قراءات مضللة لمدينة القدس ونزعت عنها صفة الوطن وقدمتها للعالم على أنها مجرد قضية أماكن دينية مقدسة يقوم نزاع حول إدارتها بين المسلمين والمسيحيين واليهود وقد انساق العالم لهذا التضليل فانشغل في البحث حول المقدسات والأبنية الدينية وغفل عن مدينة القدس والتي هي وطن سكانها الأصليين وهم العرب الفلسطينيون.
وهنا يشير الدكتور يوسف إلى أن تشتت تعريفنا وأوصافنا لمدينة القدس يخدم القراءات المضللة لتاريخ المدينة، وذلك عند تركيزنا فقط على البلدة القديمة فكتب التاريخ والمفهوم العثماني يستخدم هذا الوصف للبلدة القديمة، وحينما تتحدث إسرائيل عن مدينة القدس كعاصمة لها لا تتحدث عن مواقع يهودية مقدسة أو موقع مجهول للهيكل المزعوم بل تعني بوضوح القدس الكبرى والتي أقامتها على أسطورة أنها مملكة داوود وسليمان عليهما السلام والهدف الإسرائيلي تهويد المدينة، وذلك بانتزاع أراضٍ فلسطينية وتقليص المجال السياسي والجغرافي والنفسي للفلسطينيين وتشكل مدينة القدس صورة مصغرة لطبيعة الاحتلال الاستيطاني.
ويضيف الدكتور الحسن إلى أن إسرائيل سوّقت لهذه القراءات المراوغة، لمدينة القدس باعتبارها مكانًا للعبادة، وهذا ما يشغل العالم الغربي في الوقت الراهن وأحاطت مسألة مدينة القدس بالمحرمات والقداسة التي لا يجوز الاقتراب منها ولا يجب البحث في مستقبلها إلا بعد الانتهاء من الموضوعات العالقة الأخرى وبهذا فرضت تأجيل بحث قضية مدينة القدس بعد أن فصلتها عن قضية الأراضي المحتلة.
في محاولة لفرض الأمر الواقع بالاستيلاء والمصادرة والعزل والطرد والتهويد والقضم والإحلال والالتهام وتعريض جغرافية منطقة القدس وبيئتها وهالتها التاريخية إلى تغيير قسري وعبث ديموجرافي بالغ الفظاعة على حد تعبير الدكتور إدوارد سعيد وجعل الاحتكام في شأن تصرفات إسرائيل في مدينة القدس إلى السلطات القضائية الإسرائيلية بدلًا من أحكام القانون الدولي باعتبار مدينة القدس أرضًا محتلة بدءًا من عام 1948 حتى الآن وفقًا لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث لمدينة القدس مركز خاص لا يجوز المساس به ولا يجوز ضمها، كما يحظر على القوة المحتلة تغيير معالمها أو مصادرة أراضي سكانها الأصليين أو طردهم من بيوتهم.
وفي إطار هذه القراءات المضللة، نجحت إسرائيل في تأجيل بحث مسألة القدس في مفاوضات التسوية التي بدأت في مطلع التسعينيات بين فلسطين وإسرائيل منسجمة بذلك مع إستراتيجيتها التفاوضية المستندة إلى مفهوم التدرجية التفكيكية ومستفيدة من الوقت لفرض الأمر الواقع في مدينة القدس باتجاه التهويد، وتغيير مرجعيات مدينة القدس.
فبدلًا من أن تكون الأمم المتحدة وقراراتها هي المرجعية، أصبحت المفاهيم المغلوطة التي أشاعتها إسرائيل هي الثقافة السياسية والقانونية السائدة، وصارت اتفاقيات التسوية التي تأجلت فيها مسألة مدينة القدس إلى المراحل الأخيرة هي المرجعية، وتحولت صيغة الأرض مقابل السلام لكي تحل محلها صيغة السلام مقابل الأمن أو السلام مقابل السلام، وتحويل مصير مدينة القدس من أرض محتلة، إلى أرض متنازع على إدارة أماكنها المقدسة فقط، ومن رقم صعب على طاولة مفاوضات سرية إلى مصير مجهول تتحكم فيه جرافات وسباق محموم مختل في توازنه بين سماسرة عقار لشراء شقة أو قطعة أرض هنا أو هناك.
ولم تتوقف إسرائيل عن إعلان موقفها من أن مدينة القدس عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة، والنتيجة الطبيعية لهذا الخطاب المراوغ والسياسات الإسرائيلية الاستيطانية، والمصيدة السياسية التي نصبتها للعرب والعالم أجمع، أن المجتمع الدولي إذا استجير به بشأن مدينة القدس في السنوات الأخيرة حتى يومنا هذا، فإنه يميل نحو الاختباء وراء اتفاقيات وإعلان أوسلو.
وهذا ما حدث عندما كانت تثار مسائل مصادرة الأراضي لمصلحة الاستيطان اليهودي، أن قال المندوب الأمريكي في الأمم المتحدة ومجلس الأمن: إن مجلس الأمن ليس هو المكان الملائم أو الإطار المناسب للتعامل مع مسائل القدس، لأن أمر التعامل معها موكول لطرفي النزاع، بعد أن كان مجلس الأمن يعتبر قضية المستوطنات، على سبيل المثال: من غير سند قانوني خرقًا لاتفاقيات جنيف وعقبة خطيرة أمام السلام، وكان يطالب إسرائيل دائمًا بالتراجع عنها وتفكيك المستوطنات القائمة، ويطالبها أيضًا بالامتناع عن طرد السكان أو القيام بأي عمل يؤدي إلى التأثير في التركيبة السكانية.
فعندما أتى العرب والفلسطينيون إلى أوسلو طامعين في الأمان الأمريكي - الإسرائيلي لم يكونوا يعلمون أن حكمًا ضدهم قد صدر مع وقف التنفيذ ثلاثين عامًا وبعدها ينفذ الحكم.