هنا صحن المطاف. حجاج يزحفون ببطء، فلا أحد يريد أن يغادر. يود أكثرهم البقاء في هذه البقعة الطاهرة، أو يولد مرة أخرى على أرضها ثم يموت فيها. هكذا يقولون لمن يسألهم، فتذكار وصورة من مكة لا تكفي لإشباع شوقهم الذي سيلازمهم بقية العمر، خصوصا لأولئك البعيدين.
هنا الكعبة.. بكاء العابدين يختلط برجاءات الغفران. وجوه الأرض تلتقي للمرة الأولى وتختم لقاءها هنا. سيل دموع يغرق الخدود واللحى. أدعية بكل لغات الأرض ولكناتها تتداخل حتى تكاد تصبح لغة واحدة.
هذا هو المكان الذي حلموا به. إن الكعبة هي قبلة حياتهم، وحين طافوا بها بفرصة ثمينة، كانت هي العظيمة التي وجدوا فيها سلواهم.
بدا المشهد مختلفا من مروحية القوات الملكية الجوية التي جالت فوق الحرم. رقاب الطائفين تتطاول، بغية نظرة لا تمحوها الذاكرة لجدران "المشرفة"، وكان منظر الأيدي التي تمسح الوجوه بطيبها، مهيبا لمن كان ينظر إليها من السماء.
مضت إذن ليالٍ خالدة في وادي منى، وجوار جبل الرحمة ومزدلفة، وفي يقين بعضهم، فإن ذكريات أمكنة غيرها لا تستحق أن تأخذ مكانا في دواخلهم. على أبواب الحرم، تباطأ الراحلون من حجاج الخارج أمس. اصطفت أجسامهم الملفعة بملابس من كل الأرض، وطالعوا البيت العتيق للمرة الأخيرة.. ردد أولهم "لبيك اللهم لبيك".. فتبعه من خلفه بلهجات تجعلها مفعمة بلهفة العودة ".. لبيك".