(كنت في الحجاز في مهمة خاصة وما كان يخطر على بالي أنني سأسافر إلى باريس بعد أيام قلائل، نعم كنت أتصور أو أمني نفسي بأنني في يوم من الأيام سأزور باريس، ولكن في هذا الشهر من هذه السنة هذا ما لم يدر بخيالي).

هكذا مهد عبدالكريم الجهيمان لمذكراته، التي دون فيها وقائع رحلته إلى أوروبا مطلع الخمسينينات من القرن الماضي، تجول خلالها في عدة دول أوروبية، بدءا من باريس التي حظيت بالشطر الأكبر من كتابه (ذكريات باريس).

قهوة عثمان

قال الجهيمان (كانت مهمتي في جدة، ولكن المختصين بها وعدوني بإنجازها بعد بضعة أيام فذهبت إلى مكة لأداء العمرة، ثم زيارة بعض الأصدقاء فيها. وفي ليلة السبت الموافق 1 شعبان سنة 1371 كنت مدعواً مع بعض الأصحاب لحفلة شاي عند الشيخ محمد النجل الأكبر لسماحة رئيس القضاء. كانت الدعوة بعد العشاء الآخرة، فذهبت بعد المغرب إلى قهوة في ضاحية من ضواحي مكة وهي قهوة عثمان، على أن أشرب الشاي هناك ثم أعود إلى المدينة في الأتوبيس الذي يعود بعد العشاء، ولكن الأتوبيس في هذه الليلة على خلاف عادته - لم يأت إلى قهوة عثمان، فاضطررت إلى المنام في هذه القهوة - وقد صادف أن شخصا عزيزا علي.. قد بحث معي موضوع هذه الرحلة فوافقت عليها، وقدم من الرياض إلى جدة في مساء يوم الجمعة، وكان مقرراً أن تعمل إجراءات السفر في يوم السبت، ويكون سفرنا إلى باريس يوم الأحد، فكان الوقت ضيقاً وكان ضرورياً أن يجدوني ليلة السبت لعمل بعض الإجراءات والسفر معا. وبحثوا عني في جميع الأمكنة التي ارتادها، فلم يعثروا لي على خبر، وسألوا عني محمد ابن الشيخ فأخبرهم بأنني مدعو لديه بعد العشاء الآخرة، فانتظروني عند محمد، ثم انتظروا، ولكن بدون جدوى، ولما جاء الصباح وعدت إلى المدينة، وجدت الخبر فأسرعت بالسفر إلى جدة، وقابلت هذا الصديق وطلبت منه التخلف بعده عشرة أيام لترتيب أمور عائلتي ثم ألحق بهم في باريس، واتفقنا على ذلك).

في قلب باريس

دون الجهيمان تفاصيل رحلته ووصوله إلى مطار نيس، قادما من بيروت، ثم انتقاله إلى باريس التي وصفها بقوله (كنت قد سمعت عن باريس كثيراً وقرأت عنها ورأيت لها رسوماً وصوراً ملونة جميلة براقة ولذلك رسمت لها ذاكرتي صورة خيالية رائعة، وعندما رأيت باريس لأول وهلة خطر على بالي ذلك المثل العربي المشهور (سماعك بالمعيدي خير من أن تراه)، ولكن هذا المثل سرعان ما تلاشى وكذبه التعمق في الحقائق.. وعلمت أنه إن انطبق على شيء فإنه لا ينطبق على باريس). ثم يوضح المقارثة بين واقعين مستفيضا بقوله:( كنت أتخيل باريس بعماراتها الشاهقة وقصورها البراقة... ولكني رأيتها على العكس من ذلك، عمارات لا تعدو الطبقة الخامسة أو السادسة.. قد علا جدرانها نوع من الدكنة والسواد، علمت فيما بعد أنه علق بها من المعامل ودخان المصانع مع مرور الأيام وتعاقب الأعوام، وأما كون القصور لا تتعدى الطبقة الخامسة أو السادسة فقد علمت فيما بعد أن هناك نظاماً عاماً يقضي بذلك حرصاً على جمال المدينة).

ألفاظ السباب اللطيفة

بقي الجهيمان في باريس ما يقرب من ستة أشهر من رحلته لأوروبا التي استغرقت ما يقرب من سبعة أشهر، قضى الشهر الأخير منها ما بين بلجيكا وهولندا وسويسرا وإيطاليا.

لذلك خص باريس بنصيب الأسد في كتابه، واصفا إياها (لطول الإقامة فيها ومعرفة الكثير عن هذه العاصمة التي يسمونها عاصمة النور.. وبعضهم يسميها الوطن الثاني لكل مخلوق على وجه هذه البسيطة.. فالوطن الأول هو الذي ولد فيه الإنسان.. أما الوطن الثاني فهو باريس، هكذا يقولون لأن الباريسيين يفرحون بالغريب ولا يرون في وجوده في بلادهم أمراً غريبا أو شاذا، فباريس تفتح ذراعيها لكل قاصد.. والذين يقصدون باريس أنواع).


كما استوقف الجهيمان ما سماه (أدب الحديث)، وحوله كتب: (إذا طلب إليك أحد الباريسيين أمراً بدأ حديثه بـ «من فضلك» واذا أسديت إليه إرشاداً أو اشتريت منه شيئاً فدفعت قيمته قال لك «شكراً»، وإذا استوقفت أحداً لتستفسر عما تجهل وقف معك ولو كان عجلاً مشغولاً واستوفى حديثك ثم أرشدك إلى ما تريد إذا كان يعلم، أو دلك على من يرشدك إذا كان لا يعلم. وألفاظ السباب والشتائم لا تكاد تجري على ألسنتهم، وإذا غضب أحدهم من الآخر فكل ما يستطيع أن يوجهه إليه من ألفاظ السباب هو أن يقول له أنت قطعة خيار صغيرة أو ألفاظ السباب اللطيفة اللينة وما شابهها).

الناس سواسية

وخلاف أدب الحديث استوقف الجهيمان أيضا، ما أطلق عليه (الناس أمام القانون سواسية لا فرق بين كبير وصغير، ومن أخطأ فعليه أن يدفع ما ينشأ من الأضرار نتيجة أخطائه، ولا يعذر الإنسان بجهله بالقانون أو نسيانه إياه، فالمفروض أن يعرف كل مواطن ما له وما عليه، فإذا ارتكب أي مخالفة نتيجة الجهل فإنه لا يعذر بالجهل بل يعتبر في نظر القانون مقصراً ومهملاً وملزماً بغرامة ما أتلفه).

ويتابع الجهيمان بشكل دقيق (ولهذا تجد كل إنسان سائراً في طريقه المرسوم لا يعدوه ولا يتحول عنه، يتمشى مع النظام خطوة خطوة لأنه يعرف أنه إذا خالف النظام فنشأ عن مخالفته أي إتلاف أو ضرر ملزم بضمانه وغرامته، فلو فرضنا أن سائق سيارة خالف النظام فدهس الجاني إنساناً وكسر يده أو رجله وعطله عن العمل فإن عليه أن يدفع للمجني عليه نفقة شهرية تقوم بأوده وأفراد عائلته طيلة أيام حياته، وقس على هذا المثال أشياء كثيرة في حفظ حقوق الأفراد والتشديد على من ارتكب خطأ نتيجة لجهله أو تسرعه).

الأمم المتمدنة

سجل الجهيمان عدة مشاهد وملامح أخرى رصدها وهو يتأمل على مدى أشهر حياة باريس، ومنها (الغريب في باريس يجد كثيراً من الرعاية والاحترام سواء من البوليس أو من الحكومة أو من الأهالي).

ورأى (في باريس كما هو الحال في جميع الأمم المتمدنة جمعيات كثيره مبثوثة في طول البلاد وعرضها لمراقبة ملاك الحيوانات في حسن معاملتها وعدم تحميلها ما لا تطيق ومعالجتها إذا احتاجت إلى العلاج).

وفيما يتعلق بالتحضر والنظاقة قال الجهيمان (إنك في باريس لا ترى إلا جميلا ولا تسمع إلا جميلا ولا تشم إلا طيبا، فالشوارع مسفلتة لا ترى فيها غباراً ولا ترابا ولهم طريقة خاصة بالسفلتة، فإنهم حين يسفلتون الشوارع يجعلون وسط الشارع محدبا ثم ينحدر قليلا قليلا ذات اليمين وذات الشمال حتى ينتهي الانحدار إلى الرصيف، وبهذا تنحدر مياه الأمطار والأوساخ إلى جوانب الطريق).

عبد الكريم بن عبد العزيز الجهيمان

( 1912 - 2011)

صحفي وأديب وباحث سعودي

ولد في قرية غسلة بإقليم الوشم

ارتحل إلى الرياض وبقي فيها مدة عام

شد الرحال إلى مكة المكرمة ودرس في المعهد العلمي السعودي

عمل معلمًا في مدارس مكة

من أوائل المهتمين بتدوين التراث الشعبي في السعودية عام 1963.

انتقل إلى المنطقة الشرقية عام 1952 وأسس (أخبار الظهران) أول جريدة هناك

أشهر مؤلفاته:

(أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب)

(الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب)

(آراء فرد من الشعب)

(دخان بلا لهب)

الغول ذو سبعة الرؤوس

الحطاب والكنز