معروف أن هناك أحزابا وجماعات أيديولوجية تقوم بعمل منظم ومستمر ضد السعودية مثل الأحزاب الشيعية المؤدلجة كحزب الله والحشد الشعبي والحوثيين ومن خلفهم الحرس الثوري الإيراني، والإخوان المسلمين وما تفرع عنهم أو انشق عنهم أو ترسم مبادئهم كحماس والقاعدة وداعش وغيرهم، بالإضافة إلى التيار اليساري والقومي منذ خمسينات وستينات القرن الماضي، وصحيح أن الفكر الأيديولوجي عندما يستحكم ويتحكم في أذهان أصحابه لا يتم تغييره بسهولة، لكن المسألة الخطيرة هي في أن كثيرا من الناس العاديين وغير المؤدلجين ومن أجيال جديدة ناشئة انجرفوا خلف هذه الحملات وظهروا بوضوح في أحداث غزة، فأين هو أس المشكلة؟ وما هو دورنا أمام ذلك بعيدا عن الركون إلى قناعتنا بأن ما يقولونه كذب بيِّن، ثم نصفهم بالعبارة المبتذلة «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس» ونستكن بعدها وكأن الأمر انتهى، كما نتساءل دائما ما الذي يجعل أجيالا من عرب الشمال وبخاصة في فلسطين يهاجمون السعودية مع أن مواقفها واضحة ومعلنة، ومساعداتها وصلت إلى كل بيت؟ ولماذا لا تتغير النغمة مع اختلاف العهود وتعاقب الأجيال؟ وصوت المنصفين منهم خافت وإن كانوا الأغلب.
الموضوع أكبر من كذب تردده هذه الجماعات في وسائل التواصل والوسائط الإعلامية، وأخطر من أن ننام خلف العبارة الإنشائية «الحق أبلج والباطل لجلج»، فقد رأينا حقا غابت شمسه لأنه لم يقف لإظهاره أصحابه، ورأينا باطلا ذاع وانتشر لأن خلفه عمل كبير دائم ودؤوب، إن ذلك يعود إلى ما يسمى ببناء الذاكرة الكاذبة.
الذاكرة مهمة في حياتنا، وأي معلومة تصل إلينا أو خبر نتلقاه أو حادثة تواجهنا نستدعي مباشرة الذاكرة لتضع هذا الخبر أو المعلومة في سياقها مهما كان بسيطا أو مركبا، فإعداد كوب من الشاي أو القهوة أو طبق معين يستدعي فورا الذاكرة التي تحرك عملية الإعداد بالشكل الذي نحبه، وعندما نركب السيارة في المشوار اليومي من البيت إلى المكتب مثلا تقود ذاكرتنا السيارة لدرجة أننا نفاجأ عندما نصل إلى مشوارنا أننا لا نعلم كيف وصلنا إلى مشوارنا، ولا نعلم كيف كانت الإشارات، أو ماذا صادفنا ورأينا في طريقنا.
لكن بنوك الذاكرة ليست نوعا واحدا، فهناك ذاكرة حقيقية أو ما تسمى بذكريات الحقائق، وهناك أيضا الذكريات الكاذبة الغنية، وبناء على ذلك هل يمكنني أن أجعلك تتذكر ما أريده منك؟ وهل أستطيع أن أسرب إلى ذاكرة شخص ما بعض الأفكار المخطط لها بعناية؟ ثم تجده بعد ذلك يحدثك عنها بثقة كبيرة ضمن التفاصيل الكثيرة الحقيقية حول الموضوع.
أصبح بالإمكان الآن علميا أن تقوم هيئة أو جهة معينة بغرس أفكار غير حقيقية في ذاكرة شخص أو أشخاص أو مجموعات، وعندما يستدعيها بعد ذلك من بنك ذاكرته يتلقاها كما لو أنها أحداث سابقة وقعت حقيقة أو مرت به فعليا، وهذا الموضوع أصبح علما له برامج تعمل عليها الحكومات والمنظمات، كأن يقوموا بزرع معلومات مضللة في ذاكرة الجنود حتى يصبحوا كما يريدون، أو ماذا يقولون إذا وقعوا في الأسر، فيتم التلاعب بمعلومات ما بعد الحدث، وقد يستخدم في الأمور العلاجية لمن يعانون من اضطرابات نفسية وغيرها، ولهذا فازت إحدى المتخصصات في هذا العلم بجائزة نوبل.
هناك ما يسمى نموذج المعلومات الخاطئة، كأن يشاهد الشخص حدثا ما دون تفاصيل، ويسمع بعد ذلك أخبارا وتفاصيل قد لا تكون حقيقية، ثم ينسج قصته التي يرويها من ذلك، ويختزنها في الذاكرة على هذا الأساس، وبعد فترة حين يسترجعها من بنك الذاكرة، يسترجع كل التفاصيل على أنها أحداث حقيقية شاهدها بما فيها التي سمعها ولا صحة لها، وهو هنا لا يدعيها أو يعلم أنها كاذبة ولكنها مخزنة في الذاكرة على أنها صحيحة، فاستعماله لها يتجاوز الحكم القيمي بالصحة أو الكذب، وهناك مثال علمي مشهور في دراسة قامت بعرض صورة حادث لسيارة وأمامها العلامة المرورية (قف)، وبعد ذلك سألتهم سؤالا مضللا: هل وقع الحادث مع السيارة الأخرى مع أن العلامة المرورية هي (أفضلية المرور للغير)؟ وكان هذا السؤال هو المعلومة المضللة التي تتسلل إلى تفكير الشخص، وبعد فترة سألوهم عن تفاصيل الحادث فكانت هناك إجابات كثيرة عن وجود لوحة (أفضلية المرور).
ثمة تجارب أجريت على الأشخاص البالغين العاديين بزرع الذكريات الكاذبة، وجاءت النتيجة أن 30% من الحالات تطورت لديهم إلى ذاكرة كاذبة، 23% تطورت لديهم بشكل أكبر بحدوث اعتقاد خاطئ بأن هذا قد حدث لهم على الرغم من أنه لم يكن لديهم هذا الشعور بالتذكر قبل ذلك، والمفاجئ أنه عندما تم إجراء نوع من التصوير العصبي للدماغ باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لاكتشاف هل تكون الإشارات العصبية مختلفة بالنسبة للذاكرة الحقيقية والذاكرة الكاذبة لم يرصد الاختبار أي فرق بينهما.
في عالمنا الحقيقي هناك معلومات مضللة في كل مكان سواء في المجالس أو وسائل التواصل أو الإعلام أو المعلومات التي تدفعها تطبيقات الإنترنت، ولكن زرع الذكريات الكاذبة بالخداع يتم عن طريق عملية تسمى بالدفع والسحب، كما يحدث في استطلاعات الرأي أحيانا، حيث الظاهر هو الحصول على المعلومات، ولكن الهدف الحقيقي هو إدخال بعض المعلومات إلى العقل، وهذا ما كان يفعله الأيديولوجيون في البرمجة العصبية سابقا والآن في علوم الطاقة وغيرها، ويتم بصورة كبيرة في وسائل التواصل عن طريق زرع معلومات حقيقية وكاذبة وسط حماس التعليقات وأيقونات الإعجاب والمتابعة واللايكات، والقادم أسوأ على المدى القريب من خلال التلاعب بالصور والأصوات ضمن التكنولوجيا المزيفة العميقة Deep fake technology لزراعة الذكريات الكاذبة التي ستكون تقنياتها بأيدي الجميع لتأخذنا إلى أبعد من ذلك.
قد لا تعرف هذه الجماعات والأحزاب الأيديولوجية التي تهاجم السعودية تقنيات هذه العملية الذهنية، ولكنها تسير وفق المفهوم نفسه، ولذلك لا يكفي البكاء أو الغضب والانفعال عندما يقومون بذلك لأن رد الفعل يرسخ الفعل ولا يلغيه، ولكن لا بد من العمل على إثبات مستقل يشوش الذكريات الكاذبة إن لم يلغها، ويبصرهم فيما إذا كانوا يتعاملون مع ذاكرة حقيقية أو تمت معالجتها، كما حدث في مذبحة قصف المستشفى المعمداني الذي قامت الدنيا على أنه قصف إسرائيلي ثم ظهرت روايات أخرى عن أنها عملية إطلاق صاروخ فاشل للجهاد الإسلامي من غزة، أو صاروخ أمريكي ينفجر مرتفعا عن الأرض ولا يترك آثارا، وآخرها تقرير نيويورك تايمز أن الصاروخ لم يطلق من غزة. وتتشوش بعد ذلك في الذاكرة فلا تصبح حقيقة واقعية أو كاذبة.
الشيء المؤكد هو أن المزيفين ليسوا أكثر ذكاء أو أكثر واقعية ولكنهم يعملون على الحقن الكاذب فيما لا يعمل الحقيقيون، كما أن لديهم البراعة والجلد أكثر من الحقيقيين.