في ندوةٍ للحديثِ عمَّا يَجري في فلسطين، لم يأتِ المحاضِر على ذكر «غزة» البتة، لكنَّه أخذَ ابتداءً يُشقِّق لفظَ «غزا يغزو»، وكأنّه يُرمِّم باللغةِ آثارَ الدمار، ثم قال: «إنًّ الغزو يُجدّد اللغةَ نفسَها، فتبتكر لها طُرقًا تُساعِد الناسَ على أمورِ حياتهم».

ربما بهذه الأسطر يتلخص كلامُه النظري، ثم أشركَ التنظير بتطبيقٍ رآه مناسبًا لحديثِه، حين أورد نموذجًا روائيًا إنجليزيًا/ أمريكيًا، هو العمل الشهير «عالم جديد شجاع»، لألدوس هكسلي، باعتباره يبني من خلالِ اللغةِ عالمًا عنصريًا، أداتُه الغزو الذي يُقلِّل نسلَ المتخلفين في العالم الثالث، الذين لا يمكن العناية بهم، وتسكينهم بما يليق بالعالم الأول، ولو طرأت فكرةُ تعليمهم، فإنَّ ذلك يُقلِل من جهدِ النخبة وإنتاجِهم، ومن ثمَّ سيخسر العلمُ وتطوره؛ لهذا فإنَّ موتَهم السريع أفضل، لأنَّ حياتهم لا قيمة لها، هذا المحاضر فيلسوفٌ لغويٌ، عادَ إلى الأدبِ؛ ليفكرَ بالبندقيةِ كيف تعمل وماذا تريد، وتنتج؟ لهذا كانت محاضرته مضادة لترك الأدب وحمل البندقية أثناء الحرب.

كانت محاضرته أشبهَ بقصيدةٍ عربيةٍ قديمةٍ، يتخلَّص فيها الشاعرُ مِن غَرضٍ ليدخلَ في غَرضٍ آخر، وفي الآنِ نفسِه يَربِط بين هذه الأغراض رابطٌ لغويٌّ متين، وقد كان يُسمى هذا عند العرب «حسن التخلص»؛ إذ كانَ الشعراء -قديمًا- يبدأون مطالعَهم بالوقوفِ على الأطلالِ، ثم ينتقلون إلى التشبيب، ومنه يفتحون أبوابَ المدح أو الفخر، أو حتى الهجاء، ولكيلا ينفر السامع فإنهم يلجأون لحسن التخلص بين المطالعِ والغرضِ الأساس للقصيدة، وهذا ما فعله المحاضر، حِين ربطَ بين الغزو وتاريخ الأدبِ الأمريكي.


قال -والعهدة عليه- إنَّ إيزابيلا الإسبانية مَوّلت رحلةَ المستكشِف الإيطالي كولومبس للقارتين الأمريكيتين، مما فَتَح الآفاقَ للإنجليز؛ كي يتّخذوها مستعمراتٍ لهم؛ فأنتجَ أدبًا خياليًا لأرضِ الأحلام التي تحتاج إلى عَقدِ صلحٍ بين الثروةِ الماديةِ والدين؛ لهذا كانَ «البيوريتان البروتستانت» يَرون أنَّ النجاحَ الدنيوي علامةٌ على الخلاص الأخروي، هنا طرحَ المحاضر سؤالًا: ألا يمكن أن يكون هذا مقدمة لغزوٍ يزيد من الثروة؛ فالباحثون يربطون بين البيورتانية والرأسمالية؟ إن كانَ ذلك دقيقًا، فكيف عبَّر عنه الأدب الأمريكي آنذاك؟ تخلَّص المحاضر من الجواب المباشر لهذا السؤال، بقول: «فَشلُ الأديبِ -آنذاك- مرتبطٌ بالفشل الدنيوي بتكوينِ الثروة، إذ كلا الفاشلَيْن مآلهما إلى الجحيم».

بعد هذا التَخلُّص انتقلَ المحاضر إلى الحديثِ عن الثورةِ الأمريكيةِ ضد بريطانيا، بوصفها ستصنع أدبًا استقلاليًا، يسعى للنجاح الدنيوي؛ وعلامته: إلغاء الهوية الأدبية الإنجليزية، والبحث عن أدبٍ جديد، بجِدةِ الحلم الأمريكي، لكنّ ظل كابوس السكان الأصليين جاثمًا يمنع الحلم من التجلي، ثم صار هذا الكابوس بحدِّ ذاتِه أدبًا أمريكيًا، يصنع العنفَ من خلالِ الرصدِ التاريخي وتحويلِه إلى طبقٍ أدبيٍّ؛ يُشعِل جذوة الغزو؛ إذ كُل موجةٍ من المستوطنين تُهجِّر السابقة؛ فالبيضُ هَجَّروا الهنودَ الحمر، فرحلوا إلى الغرب، والطبقةُ الوسطى هجَّرت الطبقةَ الأدنى منها، ثم إنَّ هذه الطبقة المُهجَّرة رحلت إلى الغربِ فهجَّرت الهنود الحمر..

وهكذا حتى أوقع الأدبُ مقولةَ: «إنَّ جميع البشر خلقوا متساوين» في إعلانِ الاستقلالِ الأمريكي، بمفارقةٍ عجيبة؛ ففي قضيةِ الناشط الأمريكي/الأفريقي، «دريد سكوت» ضد سانفورد عام 1857م، حكم قاضي المحكمة العليا أنَّ الأفارقة الأمريكيين ليسوا مواطنين، ولا يمتلكون حقوقًا تُحترم، وأن استعبادهم يَصبّ في صالحهم، فهم أدنى من البيضِ، وأدنى من السكان الأصليين أيضًا، لهذا تحولوا إلى سلعةٍ اقتصادية تُباع وتشترى.

هنا وجدتُّ المحاضِرَ يبتسم، ربما ليُجهِّز الحاضرين لتَخلُّصٍ جديد، وقد كان هذا بالحركةِ الرومانسية التي اشتدَّت بأمريكا في السنوات التي اشتدت بها إهانةُ السود، لهذا أكّدت الرومانسيّةُ على أهميةِ الفنِّ مِن أجلِ الفن؛ لتجعل من الوعي الذاتي أسلوبًا مهمًا، وكأنَّ الأدبَ هنا أراد التبرّي من مَعرةِ الاستقلال الأمريكي، بالتعالي على رسالةِ الأدبِ في تغيير الواقع، لكن في الجانب المخفي من الرومانسيةِ أنَّ الأدبَ يُطالِب السودَ بتغيير ذواتهم وتطويرها، لأنَّ لبَّ الرومانسية متركّز بأنَّ الذاتَ والطبيعةَ شيءٌ واحد، ومن ثم فإنَّ على الفردِ واجبًا أخلاقيًا لإصلاح التفاوت الاجتماعي.

ومن هنا كانَ الأدبُ الأمريكي يُعزز من النزعةِ الفرديةِ التي طمحت إليها الديمقراطيةُ الأمريكية، لكنَّ الذي جرى أنَّ هذه النزعة كانت غطاءً لقتلِ ذواتٍ وإبقاء آخرين، لأنَّ الذي قَدِرَ على تطويرٍ ذاتِه هو الذي كانت ذاتُه معززةً بوسائل اجتماعية واقتصادية منذ البدء؛ لهذا صار الأدبُ مجالَ تندُّرٍ من السود، حتى خرجَ تيار الواقعية، من رَحِم الحربِ الأهلية الأمريكية، التي كانَ الرِقُّ أبرز أسبابها الجذرية، ومن هنا أكّدت الواقعية على قولِ الحقيقة وهدم الأعراف المهترئة.

وقد ضَربَ المحاضِرُ بمارك توين مثالًا على الواقعية، من خلال روايتِه «مغامرات هاكلبيري فين»، حيث البطلُ «هوك فين» صبيُّ فقيرٌ يُساعِد عَبدًا على الهربِ واستعادة حريته، ويقول المحاضر -وهو يبتسم- إن همنغواي قال: «إنَّ الأدبَ الأمريكيَّ يأتي من كتابٍ واحدٍ هو مغامرات هاكلبيري فين»، ربما لأنَّ حكاية مارك توين تعتمد على دائريةٍ روائية، تبدأ من حلم الاستقلال، حتى إذا جاء الاستقلال يُهرَب منه إلى ما هو أنقى، وهكذا حتى يعود إلى النقطة الأولى، ومن العودة للنقطِ الأولى دخول أمريكا -النسبي- الحرب العالمية الأولى، حيث لم يستطع الأمريكيون بعدها استعادة البراءة، بل اندمجوا في عنفٍ أكثر مَهَّد لدخولهم الشرس في الحرب العالمية الثانية.

هذه المرحلة هي التي أنتجت أدَبَ التجريب في حقل الحداثة والحضارة، إذ كتب «إليوت» في العشرينيات قصيدَته «الأرض اليباب»، وكأنَّه يُجرب أن يُسقي الصحراء الأمريكية ماءً من الروح؛ لعلها تنبت شيئًا، لكنها لم تنبت إلا مزيدًا من النزعة الفردية، وكأنها ستعود لمربع الرومانسية، ولكن بحِملٍ ثقيل يأخذ معه كل المآسي التي جرت في القرن العشرين.

التفاتة:

لاحظت استياءً على الحضور من كلام المحاضر ما عدا أنا وهو، كنّا مبتهجيْن.