تتمتع دول مجلس التعاون بثقل إستراتيجي ومكانة دولية متميزة كنتيجة طبيعية لما تلعبه هذه الدول من دور محوري ورئيس في سوق النفط العالمي، وما يرتبط به من سياسات اقتصادية وعلاقات دولية مؤثرة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والأمن الدولي لجميع دول العالم، ويرتبط بذلك ما نعيشه من متغيرات دولية مستمرة وأحداث مفاجئة ومباغتة في مختلف بقاع الأرض، سواء كانت عسكرية أو كوارث طبيعية أو غير ذلك من القضايا التي تعيشها دول العالم التي تشكل جزءا من المنظومة الدولية المعنية والمتأثرة بمخرجات ما يتم الاتفاق عليه دوليا في جميع اللقاءات الاقتصادية والسياسية بخصوص قضايا مشتركة تجمع ما بين الدول المشاركة سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.

تشكل مجموعة دول الآسيان عشر دول مهمة في جنوب شرق آسيا، استطاعت أن تحقق منفردة ومجتمعة قفزات نوعية في مسيرتها التنموية وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، جعلتها تتقدم في مؤشرات التنمية البشرية العالمية، بل يتصدر بعضها الدول الأوائل في قائمة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة جدا، حتى انتقلت تلك الدول في ترتيبها التنموي من دول نامية متأخرة في العالم الثالث إلى دول تنافس الدول المتقدمة في جودة مخرجاتها العلمية وتقدم إنتاجها الصناعي وارتقاء شعوبها وارتفاع مستوى الدخل فيها بسبب ارتفاع إنتاجها المحلي، وتزايد مصادر دخلها الوطني وتنوعه نتيجة تبنيها سياسات اقتصادية واجتماعية تنموية أسهمت في تغيير واقعها الاجتماعي والاقتصادي محليا وإقليميا وعالميا، وهو ما دفع الدول المتقدمة للاعتماد عليها في صناعة وإنتاج كثير من منتجاتها المعروفة، مستفيدة من وفرة الأيدي العاملة ذات التدريب والتأهيل العالي فيها مع انخفاض تكاليف الإنتاج الصناعي والتقني بها، مما جعلها موطنا لكثير من الصناعات الغربية المتقدمة.

تضم دول الآسيان: إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي والفلبين وتايلاند وفيتنام ولاوس وكمبوديا وميانمار، مشكلةً كتلة إقليمية متجاورة في موقعها الجغرافي، ومتقاربة في مبادئها وثقافتها المحلية، وفي طبيعة سكانها الذين تجمعهم اللغة الملاوية العامة لسكان جنوب شرق آسيا، مع اختلاف اللغات المحلية لكل دولة، بل تتعد اللغات حتى على نطاق الدولة الواحدة والشعب الواحد، ولم يكن ذلك الاختلاف ليضعف من لحمة تلك الشعوب أو يحد من فرص التعاون فيما بينهم لتحقيق مصالح مشتركة تخدم قضاياهم وتطلعاتهم الوطنية، بل مكنهم من تكوين قوة إقليمية مجتمعة لها وزنها الدولي اقتصاديا وسياسيا.


لا شك أن بناء شراكات إستراتيجية بين دول مجلس التعاون ودول الآسيان، ورفع مستوى التنسيق والتعاون بين الطرفين تجاه القضايا ذات الاهتمام المشترك، هو جزء من سياسات دول مجلس التعاون بالانفتاح على الشراكات الدولية مع التكتلات الفاعلة في المجتمع الدولي، لتعزيز مكانته العالمية، حيث إن هناك روابط مشتركة وتطلعات واعدة تدفع نحو استثمار التعاون ما بين الكتلتين في جميع مقومات الطرفين، وما يمتلكونه من إمكانات وموارد، التي يمثل فيها الموقع الإستراتيجي والتقدم الاقتصادي والأهداف والطموحات المتوافقة مثل تسريع النمو الاقتصادي وتوطيد الشراكات الاستثمارية الدولية والتنمية الثقافية وتعزيز السلام والاستقرار العالميين القاعدة التي ينطلق منها التعاون المشترك لمصلحة الطرفين.

تشهد المنطقة والعالم تغيرات جيوسياسية مؤثرة على جميع المستويات، بما يستدعي تكثيف العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية والأمنية ما بين دول مجلس التعاون والدول التي تجمعنا بها أهداف مشتركة ومصالح مستدامة، وتُعد دول الآسيان من الدول المتميزة التي يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي بناء علاقات إستراتيجية وشراكات اقتصادية معها يستفيد منها كلا الطرفين، ولعل ما حققته دول الآسيان من نجاح اقتصادي وتقدم تنموي في جميع المسارات خلال العقود الماضية أدى إلى نمو اقتصادها 5.7% خلال 2022، في حين حققت دول مجلس التعاون نموا اقتصاديا بـ7.3% في العام نفسه. وعليه، فقد حققت دول المجموعتين كما ذكر سمو ولي العهد «إنجازا مهما في طريق التنمية الاقتصادية، حتى تجاوز الناتج المحلي لدولنا مجتمعة 7.8 تريليونات دولار، وذلك يدفعنا للعمل نحو اقتصاد أكثر ازدهارا».

ومع تفاوت حجم اقتصادات دول الآسيان التي أصبحت تشكل ثقلا إستراتيجيا في موقعها الجغرافي وسياساتها المتوازنة بتأثيرها الإقليمي والدولي، فإن قوتها الاقتصادية وموقعها الإستراتيجي في الجزء المتطرف من القارة الآسيوية، مع وفرة أياديها العاملة وتأهيلها، انعكسا على شكل ازدهار اقتصادي وتنمية لجميع دول الآسيان، التي يشكل فيها الاقتصاد الإندونيسي وحده 36% من اقتصاداتها مجتمعة بقيمة تبلغ 1.31 تريليون دولار. في حين تمثل لاوس النسبة الأقل، بما يبلغ 15.3 مليار دولار، بينما تمثل دول مجلس التعاون الاقتصاد الأكثر ثقلا في منطقة الشرق الأوسط، والسياسات الأكثر توازنا واعتدالا في حفظ التوازن الدولي والاستقرار العالمي. لذلك، فإن التعاون ما بين الكتلتين يؤسس لتكامل اقتصادي زاهر، وتبادل مثمر في جميع المصالح والمنافع التي تخدم قضايا المجموعتين إقليميا وعالميا.

هناك مشتركات تجمع بين الكتلتين في قضايا سياسية وحقوقية وتجارية ودينية تدفع لتضافر الجهود من أجل تحقيق السلام والأمن والاستقرار والازدهار، وصولا إلى التنمية والتقدم، بما يمكن من مواجهة التحديات والمخاطر العالمية والإقليمية؛ لضمان استدامة سلاسل التوريد وترابط النقل والاتصالات، وتعزيز الأمن الغذائي والمائي وأمن الطاقة، وكذلك تعزيز التعاون فيما يتعلق بمصادر وتقنيات الطاقة الخضراء والمتجددة، والبنية التحتية للسياحة، وإيجاد فرص الأعمال، وتعزيز تدفقات التجارة والاستثمار.

تعزيز تدفقات التجارة والاستثمار يخلق فرص تبادل المنفعة للاستثمارات المشتركة، والتركيز بشكل خاص على البنية التحتية المستدامة، ومصادر الطاقة المتجددة، والبتروكيماويات، والزراعة، والتصنيع، والرعاية الصحية، والسياحة، والخدمات اللوجستية، والمدن والاتصال والرقمنة، وذلك يمثل القاعدة التي ستنطلق منها المشاريع والمبادرات والشراكات الإستراتيجية ما بين القطاع العام والخاص، بما يتوافق مع إطار التعاون ما بين مجلس التعاون ورابطة الآسيان.