سيبقى الأسبوع الثاني من حرب غزّة- إسرائيل علامة تاريخية فارقة، علامة سوداء بالتأكيد بالنسبة إلى ما لا يزال يسمّى المجتمع الدولي الذي أخفق مرّتين في مجلس الأمن، قبل مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني وبعدها، في إصدار قرار يطلب «وقفا فوريا لإطلاق النار» و«تسهيل وصول مساعدات إنسانية» إلى غزّة. لكنه أخفق ثالثةً عندما تخاذل في دحض تبرئة الرئيس الأمريكي لإسرائيل ومشاركتها المسؤولية عن تلك المجزرة، وعما سبقها وعقبها وما لا تزال ترتكبه من عقاب جماعي مستمر للشعب الفلسطيني. يشهد الحقوقيون في الغرب أن ما يحصل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات للقانون الدولي، أما حكومات الغرب فتصمت وتتغاضى أو تقول إن لإسرائيل «الحق في الدفاع عن نفسها»، وبالتالي فهي تشارك في الانتهاكات، بل إن واشنطن تطرح الآن مشروع قرار في مجلس الأمن لتكريس هذا «الحق الإسرائيلي» قانونيا وحصريا، ولم يسبق لها أو لحلفائها أن اعترفوا يوما للفلسطينيين بشيء آخر غير «الحقّ» في أن يُقتلوا.

لم يصدّق أحد رواية الطرف الثالث أو «الجهة الإرهابية»، التي تلقفها جو بايدن، ونسبها إلى معلومات جمعتها إدارته، ثم أراد بيعها إلى الحلفاء الأوروبيين الذين طالبوا بتحقيق دولي ولم ينددوا بإسرائيل، وهكذا أثبتت مواقفهم المؤيّدة لها أنهم تعاملوا دائما مع حياة الفلسطينيين على أنها «أقلّ أهمية» من حياة الإسرائيليين، وفقا لعبارة العاهل الأردني خلال «قمة القاهرة للسلام». تجاهل جامعو المعلومات في الإدارة الامريكية أن مصادر إسرائيلية لم تنفِ مسؤوليتها في التعليق الأول، بعد لحظات على مجزرة المستشفى، بل ذكّرت بمناشير وإنذارات سابقة «تأمر» بإخلاء شمالي غزّة، بما يشمل المدارس ودور العبادة والمستشفيات التي صارت كلّها ملاذات للنازحين. وبعدما تولّى بنيامين نتانياهو ترويج الكذبة لتغطية زيارة بايدن وإعفائه من الحرج، بادله الأخير بتغطية الجريمة، وزاد: «لديكم الوقت والشرعية» ثم طلب من الكونغرس الموافقة على تمويلٍ لإسرائيل: الوقت لمزيد من القتل. والشرعية للإفلات من أي مساءلة وعقاب، لا من قانون دولي ولا من ضمير إنساني. والتمويل كتأكيد لضرورة الحرب على غزّة في مواجهة مطالبة دولية واسعة (باستثناء أوروبا المنقسمة) بـ «ضرورة الوقف الفوري للحرب» لأنها ستكون مجرّد مقتلة مرخّص لها تشيع الفوضى وتسدّ كل أفق سياسي.

في اليوم الخامس عشر أمكن فتح معبر رفح أمام المساعدات الإنسانية لغزّة، وصُوّر ذلك كأنه انتصار للجهات التي مارست ضغوطا، لكن إسرائيل لم ترضخ لأي ضغط، بل قايضت مع الرئيس الأمريكي، فمقابل تبنّيه روايتها الكاذبة عن المجزرة أعطته موافقة على دخول المساعدات، واتفقا على الشروط: «مساعدات مقابل الأسرى» و«رقابة شديدة مشتركة» للتحقّق من عدم وصول أي مواد إغاثية إلى «حماس». وبعد إطلاق محتجزتين أمريكيتين، بوساطة قطرية (أو «قطرية- إسرائيلية» كما وصفتها واشنطن) فُتح المعبر، لكن الأمم المتحدة ووكالاتها المختصّة ليست واثقة باستمرارية العملية وتتخوّف من انقطاعها في أي وقت بفعل سوابق الابتزاز الإسرائيلي، الذي حاول مثلا استبعاد أي دور لوكالة «الأونروا» التي طالب سابقا بإلغائها وهدّد أخيرا بقصف مدارسها ومقارها.


هذا النمط من التعامل الأمريكي- الغربي- الإسرائيلي مع الأزمة والحرب هو عبارة عن مسلسل أخطاء وأضاليل متوالدة منذ «سلام أوسلو» إلى حروب إجهاضه مع «المبادرة العربية للسلام»، وكان الهدف دائما -كما ظهر جليا مع إدارة دونالد ترمب- تمكين إسرائيل من استعمارها لفلسطين ومن توسيعه، بسرقة الأرض أو بالحروب الرامية إلى كيّ وعي الشعب الفلسطيني وكسر إرادته، ولا فرق فيه بين «سلطة معتدلة» في رام الله أو «مقاومة متطرّفة» في غزّة. لذلك جرى القفز مباشرةً، بعد عملية «طوفان الأقصى»، إلى أن ما حصل تهديد «وجوديٌ» لإسرائيل لا يمكن أن يعالج إلا بـإزالة «وجود» الفلسطينيين أنفسهم، ولذلك جرى إحياء المخططات القديمة («الترحيل» إلى مصر، «الوطن البديل» في الأردن) باعتبارها حلولا جذرية جاهزة لضمان «يهودية» إسرائيل وخلوّها من العرب، مسلمين أو مسيحيين. وفوق ذلك يراد لهذه المشاريع أن تتمّ إمّا بمباركة العرب أو رغما عنهم.

بعد تدمير نصف القطاع، وسقوط ما يقارب عشرين ألفا من المدنيين بين قتيل ومصاب ومفقود تحت الأنقاض، وتشريد نصف الغزّيين، ما الهدف من الحرب البرّية؟ تكرّر السؤال وجوابه: «إنهاء حكم حماس والقضاء عليها». ثم ماذا بعد؟ تكرّر السؤال أيضا وبقي الغموض، حتى أن ممثلي الاتحاد الأوروبي قصدوا البيت الأبيض علّهم يتلقّون إيضاحات ليعرفوا كيف يمكن التكيّف مع كارثة كبرى يرونها آتية ولا يريدون/ لا يستطيعون إيقافها، لئلا يُوصموا بدعم الإرهاب. ثمة مَن يقول في واشنطن إن الجانب الأمريكي «فوجئ» بأن الإسرائيليين وضعوا خطة عسكرية وتركوا الأهداف السياسية لظروف ميدانية لا يبدون متحكّمين بها، لكن إدارة بايدن التي سارعت إلى إرسال أسلحة نوعية فتّاكة، قبل أن «تُفاجأ»، ليس لديها بدورها أي تصوّر سياسي محدّد. وعندما ردّد بايدن أخيرا مقولاته المعتادة عن «حلّ الدولتين» لم يعدْ لكلامه معنى في ضوء دعمه المطلق للحرب كما يريدها الإسرائيليون.

كتب العديد من المحللين الإسرائيليين تفاصيل عن مراحل الحرب البرّية التي تطمح إلى «إعادة احتلال القطاع» والبقاء فيه إلى حين فرض صيغة ما لـ«غزّة ما بعد حماس». يُفهم منهم أن هناك أفكارا مثل: «تشكيل حكومة من أطراف محلية»(؟) «إدارة مشتركة إسرائيلية- دولية»، واقتراح بإشراك «قوات عربية» لكنه رُفض... أما حديث وزير الدفاع يوآف غالانت عن «إنشاء واقع أمني جديد» وإخلاء مسؤولية إسرائيل عن القطاع «مدى الحياة» فلم يتضمّن أي يقين بتحقيق أهدافه العسكرية. أما اللافت فهو الاستبعاد الثابت للسلطة الفلسطينية، إذ يشكّل تأكيدا لهدف الفصل الدائم بين الضفة والقطاع، بذريعة أن السلطة «ضعيفة» من دون اعتراف ضمني أو علني بمسؤولية إسرائيل وأمريكا في التنكّر لمتطلبات «تسوية أوسلو»، وبالتالي في إضعاف السلطة.

ثمة تخبّط دولي، بالأحرى تهوّر أمريكي- غربي، في مقاربة الانتقام الوحشي الذي تندفع إليه إسرائيل، ما جعل أصواتا يهودية أمريكية تنبّه إلى أن الخطر على إسرائيل بات داخليا أكثر مما هو خارجي، وأن الحرب هذه المرّة أخطر من أن تُترك لمن يحكم إسرائيل الآن. ولا يوازي ذلك التخبّط الغربي سوى العجز والانقسام العربيين، فحتى قبل التطورات الأخيرة كان واضحا أن إيران هي التي تدير الصراع ضد إسرائيل وتلوّح بحرب إقليمية منتظرةً أن تدعوها الولايات المتحدة إلى التفاوض على تسوية، ليس قبل «القضاء على حماس» (وهو ما غدا هدف الجميع) لكن ربما بعد ذلك، خصوصا إذا تعذّر القضاء عليها بشكل فعلي، وهو المرجّح.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»