فالرمزية في الإطار الذي اختاره لها زعماؤها وعشاقها ليست أكثر من مفهوم تافه يسكب عليه الغموض، ويلتف حوله الضباب، بحيث يقتصر فهمها على القلة القليلة من المتعلقين بها، وشعراؤها يكتفون بأن يكون شعرهم أحاجي ورموزًا أو ألغازًا تستدرج شداة الأدب وناشته إلى الانضمام إليهم، ومن هنا فقد وصمهم النقاد بأنهم استبدلوا الشعر بالكتابات الباردة إلى درجة التجمد، وذهبوا هم إلى الاستخفاف بكل ما يصوب إليهم من سهام، وأخذوا يدعون إلى الاهتمام بالجرس والرنين في الكلمة والجملة باعتبارهما السبيل إلى إحداث التأثير الموسيقي الذي يجيء عندهم في الاعتبار الأول والأهم، متأثرين في ذلك بتعريف إدجار آلان بو للشعر حيث يقول إنه «الخلق الإيقاعي أو الموزون للجمال».
وفي ثورتهم على الواقع والطبيعي رفضوا كل عمل أدبي، أو موضوع يعالج شؤون المجتمع والأخلاق، لأن رسالة الفن هي التغني بالجمال وحده بعيدًا عن هذه المسؤوليات المألوفة في حياة الناس، ولذلك فإن أي عمل أو موضوع يمكن أن ترحب وتهلل له المدرسة الرمزية ما دام يعبر عن إدراك رقيق وذكي لما يوحيه الجمال من المشاعر والأفكار.
واشتدت حملة النقاد على الرمزية وأتباعها، واشتد في الوقت نفسه إصرار هؤلاء الأتباع على الغلو في تفسير انفلاتها ورعونتها، وكان بودلير يعيش أشد مفاهيمها انحرافًا، ليس فقط بما يكتب من أزهار الشر، وإنما بسلوكه وتصرفاته وعلاقاته بالزنجية التي ألهمته أكثر ما بقي من الشعر في ديوانه. وبلغ من هذا الإصرار أن كان بودلير يزدهي ويفخر بأن مدرسته قد أحدثت في الأدب هزة جديدة أغرت - عن سابق إصرار - بالانحراف والاستهتار بكل القيم الأخلاقية في السلوك، فيبلغ الأمر برامبو وفيرلين أن يرحبا أو حتى يزهوا حين وصف كل منهما بأنه منفسخ ومنحط ثم يذهب جونيه إلى حد اعتبار هذا الوصف شارة فخر وتشريف لا يستحقها إلا صاحب أزهار الشر (بودلير..) وهو الذي جمع في مقطوعاته بين الاستهتار والدعوة المكشوفة إلى الانحراف طريقًا إلى الاستغراق في المطلق فيما فسروا به جنون التفسخ والانحلال...
وبعد بودلير ورامبو وفيرلين وجونيه في فرنسا، أو بعد هذا الجموح والانفلات فيما عرف للمدرسة الرمزية عند نشأتها ترى عشاقها ومعتقيها يظهرون في بداية القرن العشرين في أيرلندا وإنجلترا. بل نرى المتأثرين بها في أمريكا وروسيا، حيث كان من أعلامها في إنجلترا «بيتس»، وفي ألمانيا «ريلكه»، وفي روسيا «أندريه بيلي». وحيث استقر لها مفهوم أقرب إلى الاعتدال، إذ أصبحت الفن الثائر على الواقعية والذي يتخذ من اللمحة الخاطفة وموسيقى اللفظ أو الجملة سبيلًا إلى التعبير عن التجربة وشعارها أو هدفها الذي لا تعنى بسواه هو الفن للفن، الشعر للشعر.
ولم تخل سيرة الأدب العربي خلال نصف القرن الماضي وحتى اليوم من شعراء أراد النقاد أن ينسبوا شعرهم إلى هذه المدرسة أو تلك، من المدارس التي عرفت في الغرب، وهم دارسون راقهم أن يقارنوا بين شعراء مدرسة ما في اللغة الفرنسية أو الإنجليزية بشعراء من العالم العربي، بحيث أخذ المحدثون النقاد والدارسون يدخلون شاعرًا مثل إبراهيم ناجي في عداد الشعراء الرمزيين أو شعراء الفن للفن والشعر للشعر، وقد يدخلونه في زمرة الرومانسيين، كما أدخلوا علي محمود طه في المدرسة تارة وفي نقيضتها أو الثائرة عليها تارة أخرى، وهم يعتمدون في المقارنة والتحليل على التشابه في التعبير عن التجربة الشعرية بين الشاعر العربي، في أواسط القرن العشرين، والشاعر الإنجليزي أو الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر أو أواخر القرن الثامن عشر.
قد لا يكون هذا بعيدًا عن الواقع، وعلى الأخص حين نقل عن الشاعر إلمامه أو معرفته بإحدى اللغات الأجنبية فلا نستغرب مثلًا أن ينسب عبدالرحمن شكري إلى المدرسة الرومانسية إذ تعرف أن الشاعر يعرف الإنجليزية، وقد تضلع فيها وقرأ الكثير من شعرائها. ولكننا نقف وفي نفوسنا الكثير من الدهشة، حين يقال لنا عن الشابي مثلًا إنه متأثر بأي مدرسة من المدارس التي عرف بها الأدب في فرنسا أو إنجلترا لأننا نعلم أن الشاعر لم يكن يعرف هذه اللغات، ولم يتح له أن يقرأ شعراءها. ولعلنا نظلمه حين نذهب إلى التماس مكامن التأثر في شعره. إننا أكثر غنى، وتراثنا أكثر تنوعًا وأقوى ازدهارًا وأقدر على أن ينطلق في عباب الفن بما فيه من طاقة ذاتية لا بأس بأن تتطور، وأن تستوعب كل أدب في العالم ولكن لا ضرورة إطلاقًا لافتعال التشبه أو التشابه بيننا وبين غيرنا، إذ لن يزيد ذلك في وزننا أو في حجمنا الفكري أو في ذوقنا الفني، وقد بلغنا الأوج قبل أن يكون لأوروبا وجود فني بمئات السنين.
1987*
* أديب وناقد ومترجم سعودي «1914– 1997».