ما الذي يضطرنا إلى عدم إبداء رأينا سوى (الود) الذي جعلناه قضية، الود الذي حوله التعنت الفكري إلى (سلعة) يُبتز بها كل ذي صاحب رأي مخالف، الود الذي كان في فترة من الفترات سمة لعصر أفرز لنا المقولة الشهيرة (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية)، والتي اختلف أيضًا على صحتها، وإن كانت قد قيلت بصور متشابهة في أزمنة مختلفة.

اليوم يبدو أن التطرق لموضوع الود ليس هو القضية، بل القضية هي اتساع مساحات التعبير مع ضيق ممرات الحوار والنقاش، ووجود حواجز في بعض الأحيان تمنع العبور.

أحد أهم هذه الحواجز هو (التفكير العاطفي) الذي يغلب على الجمهور، فهو - على الغالب - يرفض التفكير المنطقي أو العقلاني، ويتحامل على صاحبه أكثر مما يتحامل على أفكاره التي قد يؤيدها بعد مرور فترة من الزمن، تذوب خلالها أفكاره في المجتمع، ويبقى اسم صاحبها معلقا غير قابل للذوبان عند جمهور (العقل العاطفي).


الحواجز تبنى - أيضا - عندما تنبع مصادرة الرأي من أجل فرض سيطرة ما - أيديولوجية - لا تعترف إلا بما تتبناه الجماعة، كإطار يخشى الالتقاء أو التقاطع مع الأطر الأخرى، لا بل قد تصل لمرحلة تشن فيها العداوات والهجمات كمرحلة متقدمة من عدم التعاطي مع أفكار الآخر، حتى تصل لمرحلة الدخول في النوايا والتكفير فيما بعد أو التشكيك في الوطنية.

ولكن ما الذي يضطر الآخر أيضًا إلى التفريط في الود لأجل سيادة رأي ؟!

ما الذي يجعل دائرة التفكير عنده تضيق، عندما ينفذ من خلالها رأي مخالف ؟

وما الشعور الذي يتعايش به بعد إثارة الاختلاف ؟

مشكلتنا هي - فضلًا عن أننا لا نؤمن بالاختلاف - هي أننا نبرع فيما بعد في شخصتنه وتحويله إلى خلاف، فتقع معظم اختلافاتنا (بسبب مقصود لم يفهم ومفهوم لم يقصد)، ما نتج عنه منهجان:

الأول منهج الحمقى الذي يقول: (إن لم تكن معي فأنت ضدي)، والآخر هو مسلك المتطرفين الذي يقول: (إن لم تكن معي فأنت ضد الله).

وبالعودة إلى دائرة التفكير التي تنطلق منها تلك التقسيمات السابقة، نجد أن الجذور الثقافية والاجتماعية والفكرية، ساهمت بشكل كبير في جعلها تبدو دائرة أحادية منغلقة على نفسها، لا تحتمل الانفتاح لاستيعاب أفكار الآخرين أو حتى الإيمان بوجودهم في الأصل.

لا يؤمنون سوى بأنهم في زمن متغير (نهاية الزمان)، وبذلك ازداد انغلاقهم على ذواتهم، ذواتهم التي ترى أن الآراء للفرض وليست للعرض، وللتخاصم وليست للتكامل.

لذلك مشكلتنا قبل إيجاد (الود) بمترادفاته من (حب وسلام ووئام) تقتضي في الأساس فتح ممرات الحوار والتقبل، حينها سيكون «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية» باعتبار أن (الود هو المولود الطبيعي الذي حمله النقاش الصحي بعد انقسام الآراء واختلافها).