وحين نقول: «الفن»، فإننا نقصد معناه الشامل، الذي يستوعب الأدب بمختلف فنونه، والفنون التشكيلية بمختلف أنواعها والموسيقى.. وحين نقول مدارس أو مدرسة الفن فإننا نعني نزعاته واتجاهاته وتفاعله أخذًا وعطاء وتطورًا، ثم اندحارًا أو ضمورًا، بما يستجد من النزعات والاتجاهات.

ومع أن أسماء هذه المدارس قد أصبحت تتردد على أقلام الكتاب في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى، فإن مفهومها لدى الكثرة ممن يتداولون الكلام عنها يندر أن يكون واضحًا، ومعانيها ما تزال تنقصها الدقة، بحيث قد نقرأ للكاتب كلامًا عن المدرسة الرمزية، فإذا أوغل في البحث أو أوغلنا فيما يحاول أن يعالجه نشعر أننا قد تورطنا في متاهة نادرًا ما تخرج منها بحصيلة تبلور المقصود من البحث، وتضع بين أيدينا أو في أذهاننا صورة واضحة لهذه الرمزية التي قد يذكر لنا الكاتب الباحث أبطالها وقادتها والمتأثرين بهاء والآثار التي تركها عشاقها، ونظل مع ذلك نتطلع إلى أن نعرف أكثر كثيرًا مما نجده فيما نقرأ على الرغم من جهد الكاتب، وجهدنا في محاولة الفهم.

والسبب على الأرجح أن كل ما كتب وما لا يزال يكتب، حتى بأقلام كبار الباحثين، لا يتوخى الدقة العلمية التي تستهدف التركيز والبلورة، ولا ندري لذلك سببًا سوى أن هذه المدارس جديدة على العقل العربي، وعلى مألوف مفاهيم النقد والدراسة والبحث التي يبدو أن الخروج عليها والانطلاق من قيودها التقليدية ما يزال يصطدم -ربما- بطبيعة الفكر العربي الذي التزم دائمًا في مسيرته قضايا ومواقف تختلف عن القضايا والمواقف التي تعرض لها الأدب الغربي منذ عصر النهضة، ومنذ الثورة الصناعية، وهما مرحلتان من تطور الحياة والمجتمع لم يعان الإنسان العربي مثلهما حتى اليوم، فإذا كانت التجربة هي الحافز الذي تندفع منه وتتأثر به حركة التطور، فإن لنا ألا نستغرب غموض الكثير من المفاهيم، ما دمنا لم نمر بالتجربة، ولم نقف الموقف ولم تمارس المعاناة.


وليس لنا أن ندعي أننا سنوفق إلى ما غاب أو تسيب من هذه المفاهيم عند أكابر الباحثين، وفي مقدمتهم الأستاذ المرحوم أحمد حسن الزيات في كتابه «في أصول الأدب»، والأستاذان أحمد أمين وزكي نجيب محمود في «قصة الأدب في العالم»، ولكن لنا أن نحاول شيئًا من الإيضاح قد يلقي مزيدًا من الأضواء على مفاهيم ما تسمع من أسماء هذه المدارس، لا تزيد في قدرتها على إنارة المساحة عن هذه المصابيح القائمة التي تنصب في الشوارع، لا تفيدنا في استيعاب التفاصيل والخوافي، ولكنها لا تحرمنا -في نفس الوقت- من ملاحظة المعالم التي تعرف بها الاتجاه الذي تنطلق إليه، والدرب الذي نجتاز ونقطع، وإذا اخترنا «الرمزية» بداية لإعطاء لمحات عن المدارس الأدبية، فلأننا نجد الكثير من الشعراء يبررون الغموض والإغراق في الإحالة، والإسراف في الانقلاب حتى مدلول اللفظ، فيما يكتبون من شعر منثور أو نثر شعري، أو شعر حر بهذه الرمزية التي تتيح للقارئ، أن يذهب في تفسير ما يقرأ مذاهب قد لا يكون منها ما تلامح في خيال الشاعر، بل قد تكون مما لم يخطر له قط على بال.

ولعل أقرب ما يمكن أن نعرف به الرمزية هو أسلوب واع ودقيق للتعبير عن التجربة بالرمز والإيحاء.. وكانت أول نشأتها في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، ومع أن بودلير صاحب «أزهار الشر» يظل أبرز من يمثلونها حتى اليوم، فقد كان مالارميه وفيرلين وريميو من أكبر الدعاة لها والمنافحين عنها في وجه من ثاروا عليها واستهجنوها من النقاد.

والرمزية، حين تقرر كمدرسة من مدارس الأدب، فإن المتحمسين يزعمون لها الفلسفة الخاصة بها، وخلاصتها الاعتقاد بأن العالم المرئي الزائل ليس هو الواقع الحقيقي وإنما هو انعكاس للمطلق غير المرئي، وأن التماثل أو التوافق الظاهر ليس إلا نتيجة للحوافز التابعة من مختلف الحواس.

1987*

* أديب وناقد ومترجم سعودي«1914– 1997».