وتأتي هذه الإشارات في سبيل فهم أدق للنظرية الصحوية، وفهم سبب صمودها واستمرارها، لتفكيكها، وإتاحة فرصة القضاء على شرها.
وحكاية الصحوة بدأت في الستينيات حينما كانت جنينًا في طور التخلق، ثم ولدت في أول السبعينيات سائلة، بلا أي معالم، ومن دون شكل محدد، ولا يعرف لها اسم، يرفضها الجميع بشكل مباشر وصريح، غير أن عودها اشتد سريعًا، وأنضجتها أحداث جاءت تباعًا سراعًا من غير تقدير، لتكون هذه الوليدة رديفًا لأعمال الجماعة الأم، وفي الثمانينيات انطلقت أعمالها وبرامجها بوجه لم يكن معهودًا، معتمدًا على أدبيات التأسيس الثاني للجماعة الإرهابية، الذي صنعه سيد قطب، وكيل حسن الهضيبي في إدارة الجماعة، والذي صادق -أي الأخير- على تلك الأدبيات والأسس الجديدة التربوية والسياسية والقتالية، أثناء وجوده في السجن.
في عام 1971 بدأت مفاوضات صناعة الصحوة لأول مرة على يد الرئيس المصري محمد أنور السادات، بمقترح من اللواء محمد النبوي إسماعيل وزير داخليته وقتها، وهندسة وتنفيذ محمد عثمان إسماعيل محافظ أسيوط السابق، ولهذا الأمر تفاصيل كثيرة نذكرها لاحقًا.
الصحوة لم تكن كما زعم منظرو الإسلاموية، من الباحثين في علم الاجتماع الديني والسياسي، بأنها جاءت نتاج عودة إلى الدين بسبب الهزيمة النفسية للعرب بعد نكسة 67، وأن هذه «الصحوة الدينية» اجتاحت العالم الإسلامي برمته، وهذا كلام عار عن الصحة والصواب، فالسادات ومساعدوه أخرجوا شيطان «الصحوة» من القمقم، ولم يستطيعوا إعادته وحبسه مرة أخرى، بالرغم من نصح رئيس الوزراء المصري السابق مصطفى خليل، بعدم مد يد التسامح والسماح للجماعة الإرهابية، الأمر الذي أدرك السادات خطره المحدق متأخرًا، وأقر بذلك في خطابه الأخير في سبتمبر 1981، وقال بوضوح عن الإخوان: (أنا طلعت غلطان، كان لازم خليتهم في مكانهم)، أي السجن.
فالصحوة إذن لم تكن نتيجة لموجة تدينية اجتاحت العرب بسبب الآثار النفسية للنكسة، بل الأمر كل الأمر هو خروج قيادات الجماعة من السجون وأفرادها، وفك طوق الحصار عن أعمالها في البلدان العربية، وإعادتها إلى الحياة مرة أخرى لتمارس عملية الاستقطاب الجماهير والشعبي، والتجنيد التنظيمي عبر استخدام الدين كوسيلة للوصول إلى هذه الغايات.
ويمكن اكتشاف زيف نظرية «الموجة الدينية العالية بعد النكسة»، بدراسة السنوات من 1967، وحتى 1975؛ لقياس مستوى التدين، عبر المصادر الاجتماعية المختلفة والمتنوعة، وعندها ستجد أن تلك الفترة لا يوجد فيها أي تغير ولو طفيف على الحالة الدينية ومستواها في العالم العربي، وستدرك أن التغيير جاء لاحقًا بعد أن أثمرت الجهود الحركية للجماعة الإرهابية، التي أيضًا استثمرت بعض الأحداث لصالحها.
في موسم حج عام 1392، الذي وافق يناير 1973، انتهز الهضيبي فرصة الحج فعقد أول اجتماع موسع لجماعته في مكة المكرمة، وكان هذا الاجتماع هو الأول من نوعه منذ 1954، وفيه نظم الهضيبي العمل الحركي في السعودية عبر ثلاث لجان: لجنة جدة، ولجنة الرياض، ولجنة الدمام، وفي دول الخليج: نظم العمل في ثلاث لجان كذلك: لجنة الكويت، ولجنة قطر، ولجنة الإمارات.
القدر لم يمهل الهضيبي طويلًا، فتوفي بعد أشهر من حجته تلك، ولكن بعد أن أطلق العنان لأعمال وبرامج ومشاريع «الصحوة»، التي أخذت اسمها بشكل عرفي بعد سبع سنوات تقريبًا من ذلك التاريخ، من خلال مقالين كتبهما رئيس «لجنة قطر» يوسف القرضاوي، الذي ربما اقتبس الاسم من الدكتور غازي القصيبي، والذي سبقه إلى هذه التسمية بسنتين أو أقل، حيث كان من ضمن مهام القصيبي وقتها إعداد الخطابات الملكية، والتي ورد فيها اسم الصحوة قبل مقالات القرضاوي، وعلى الرغم من أن الرجلين اتفقا في مبنى الكلمة ورسمها، فإنه شتان ما بين مقصديهما، ودلالة المعنى عند كل منهما.
أعود إلى المعضلة الدينية في المجتمع السعودي، التي تركزت -كما أسلفت- بارتباط النموذج الديني في تصوره وشعوره، بالتدين الصحوي؛ الأمر الذي جعل من الصحوة حالة حاضرة، على شكل جذوة وجمرة يمكن إشعالها في أي فرصة مواتية، وهو الأمر الذي يجب ألا نتعامى عنه أبدًا، فإذا أراد الفرد في المجتمع السعودي أن يتدين، ويلجأ إلى الله تعالى، فلا سبيل أمامه إلا النموذج الصحوي، ويكفي أن تأخذ مثالًا واحدًا، على التربية والقولبة والأدلجة المستمرة للمجتمع على يد الصحوة، والتي انفرد كوادرها بالمجتمع لما يربو على الخمسين سنة متصلة عبر منبر الجمعة، لندرك مدى تجذر النموذج الصحوي في المجتمع.
والممض المحزن أنه حينما خبا الخطاب «الصحوي» الإرهابي؛ شغل شواغر محلاته وفراغاته الخطاب «السلفي»، والذي لم تختلف خصائصه عن خصائص الخطاب الصحوي كثيرًا، فبمجرد ما تبتعد به عن المسائل المتعلقة بولي الأمر، ومسائل الجماعات الإسلامية، ستجد نفسك أمام خطاب صحوي مكتمل الأركان، كما أنه خطاب يحارب التكتل والتحزب، وفي الوقت نفسه هو حزب وتكتل يقبل داخله، وينفي عنه من هو منه ومن هو خارجه وفق شروط معينة عرفت عن الصحويين فقط، وكان حريًا بهذا الخطاب حتى يكون حقيقيًا مؤثرًا، لا قشريًا في المجتمع: أن يتولى إرساء قواعد السلم والتسامح والتعايش، وأن يقف مع ولي الأمر والوطن والمجتمع في كل شؤونه، وليس في مسألة واحدة أو مسألتين، مع حفظ أحقيته وفضله بتعريف المجتمع بخطورة الجماعات والحركات الإرهابية.
أخيرًا، الجهود السياسية والأمنية بلغت الغاية القصوى في سبيل مكافحة التطرف الصحوي، ويتبقى الدور المهم، وسبيل الخلاص الأكمل؛ وهو مواجهة المجتمع لهذا الفكر النشاز، فهو وحده القادر على تطهير نفسه من بواعث الصحوة والتطرف وآثارهما.