عرفت نجیب محفوظ في الخمسينات والتقيت به كثيرًا في مقهى الأوبرا حيث كان يلتقي بالأصدقاء صباح الجمعة من كل أسبوع. كانت ندوة نجيب تلك الأيام تضم عبدالحميد جودة السحار وعلي أحمد باكثير ومحمد عقيقي ويوسف الشاروني والمحامي هارفي وكاتب هذه السطور. ثم انضم لها توفيق صالح وأحمد عباس صالح فيما أذكر.

وكان نجم الندوة دائما هو نجيب محفوظ. كنت وأنا طالب في آداب الإسكندرية قد قرأت له «فضيحة في القاهرة»، و«زقاق المدق»، و«بداية ونهاية»، واتفق رأيي مع زملائي أن نجيب هو أعظم روائي مصري.

وها أنا التقي نجيب في القاهرة واستمتع بروح الفكاهة العالية في حديثه الجذاب، وذكائه الرائع وثقافته الواسعة وفوق ذلك كله تواضعه وبساطته وروحه الاجتماعية العالية وإنسانيته الرفيعة.


في منتصف الستينات كان له 18 كتابًا، وكان أدبه قد أصبح علامة في الأدب العربي الحديث. وكنت مع كل ما قضيت معه من وقت لم أعرف بعد ولم يعرف القراء بعد حقيقة تفكير نجيب محفوظ ورأيه في الأدب بوجه خاص. ذلك أن الكاتب الكبير على الرغم من حبه للتحدث والحوار، يتحاشى دائما الحديث عن النفس، ويتحاشى السبق إلى إبداء الرأي، ويميل إلى التأمل والإرجاء.. وكلها من صفات أصحاب الفكر العميق. فقررت أن نعقد معًا جلسة عمل موضوعية، وأن أسأله فيجيبني بلا حرج، وأن أجعله يضع نقاده ودارسي أدبه على الطريق إلى فهمه، فقبل ذلك برحابة صدره، وأتاح لي وللقراء فرصة نادرة لنجيب محفوظ نفسه يشرح أدبه وفكره.

منذ ربع قرن أجريت معه هذا الحوار وعدت إليه اليوم بعد نشره بمدة طويلة، فرأيت فيه مذاقًا جديدًا ولآرائه مرامي أضاءها فوزه بجائزة نوبل، فأحببت أن أعيد نشره كما هو للقراء اليوم بنصه.

إن نجيب محفوظ يتحدث عن نجيب محفوظ. نجيب محفوظ يقرأ نجيب محفوظ بعين ناقدة.

قال لي نجيب محفوظ:

«لا فكر خارج الحياة.. ولا فكر خارج الزمان والمكان».. ولا يوجد في التاريخ تفكير مجرد. «أصول كل المسائل النفسية والفكرية ضاربة في الحياة العادية واليومية».. وأنا أعيش أفكاري في نفس الوقت الذي أعايش فيه الناس، ولا أكتبها وأنا أكتب عن الناس. وكانت أول أسئلتي إليه عن الأدب المحلي والأدب العالمي.

أود أن أبدأ بسؤالك عن رأيك في أدب طابعه محلي، وأدب طابعه عالمي أدب يهتم بمشاكل محلية إقليمية، وأدب يهتم بمشاكل عالمية واسعة، وأريدك أن تذكر لي بهذه المناسبة رأيك في إمكان ذيوع أدبنا العربي المصري على نطاق العالم، خاصة أدبنا الاجتماعي الذي تشغله قضايا مصرية خالصة.

- ظاهر الأمر هو أن الأدب المحلي أدب يثير اهتمام أهل المحل بمضمونه، وأن الأدب العالمي هو الذي يثير الاهتمام على نطاق الجنس البشري كله. ولكنك إذا فحصت القضية بنظرة أدق وجدت أنه من الصعب وجود مشكلة تهم أهل المحل خاصة، ولا تهم الجنس البشري عامة، إن الأدب الممكن توفره بسهولة هو الأدب الإنساني الذي يعالج قضايا الحب أو الخوف أو الانتظام أو ما إلى ذلك. لا الأدب المحلي بمعناه الضيق وإلا فاضرب لي أنت مثلا على موضوع محلي بحت يصلح للكتابة الأدبية.. ستجد أن ذلك صعب جدًا.

الأدب الإنساني ما هو إلا أدب محلي قد استكمل أبعاده الفلسفية. والتجربة الواحدة إذا تناولها كاتب تناولا سطحيا قد تثمر أدبا عالميا، بينما إذا أعطى الكاتب لنفس التجربة أبعادها العميقة الشاملة تصبح هي نفسها من الأدب الإنساني.

الفرق إذن بين المحلي والإنساني في الأدب هو فرق في شمول وعمق المعالجة الأدبية للموضوع، لا في نوع هذا الموضوع أو بيئته. ولكني على العموم أرى أن على الأديب ألا يهتم بهذه المسألة لأنني أخشى على كاتب يجب أن يكون عالميًا - وهي صفة مغرية - أن يتجاهل أمورًا وطنية تدعوه. أحب للأدب أن يستجيب لدواعي نفسه وأن يعيش المسؤولية التي يخلق بحامل القلم أن يعيشها.. أن يفهم البيئة من حوله، وأن يفهم الإنسانية عامة ألا يقصر في الثقافتين: المحلية والعالمية.. وأن يترك بعد ذلك الدوافع الخفية تتحكم فيه وتدفعه..

إذا كان الأدب الإنساني - جدلًا - يقتضي ألا أهتم ببيئتي أو أدرسها بعمق كما يجب، فأنا لا تهمني كتابته ولا شيء يغريني به ولكن الأمر بالطبع ليس كذلك. فما نكتبه من أدب جيد يهتم بأدق مشاكلنا الاجتماعية إنما هو أدب إنساني رغم عدم ذيوعه في أوروبا وأمريكا. وسبب عدم ذيوعه يرجع إلى أن بعض مراكز الحضارة امتاز بامتيازات أدبية

وفنية خاصة. إن كل أديب ينفعل بالبيئة من حوله سواء أكان قرية من قرى إفريقيا أم كانت بيئته هي باريس.. والفرق بين الاثنين هو أن أديب باريس يعيش في مركز ممتاز من مراكز الحضارة، وأن مشاكل بيئته موضع اهتمام جميع الناس الذين يتطلعون لتلك الحضارة على اختلاف جنسياتهم وشعوبهم.

ويجب ألا يقلقنا أن أدبنا غير شائع في العالم. فذلك لا يعني أنه أدب صفته الإنسانية غير كاملة. وثمة نقطة مهمة في هذا الصدد.. هي وجود العبقرية، فإذا وجدت عبقرية مصرية فذة فلا بد أن تفرض أدبنا على العالم كما فرض طاغور أدبه الهندي على العالم. وعدم ظهور عبقرية أدبية مصرية إلى الآن لا يجب أن يقلقنا أيضًا فإن عمر تجربتنا الأدبية الحديثة قصير جدًا؛ خمسون سنة، ستون سنة؟! إنه زمن قصير نسبيًا، ولكن ستظهر العبقرية المصرية في الأدب في وقتها.

1989*

* كاتب وناقد مسرحي مصري «1929 - 2005».