(لما اعتمرتُ أنا وزوجتي أم الفضل سنة (1410هـ)؛ كنا نرى كثيرًا من المعتمرات يسعين منتقبات، فكنت أنصح الرجال، وهي تنصح النساء؛ بأن هذا لا يجوز، فإن كان ولا بد؛ فعليكن بالسدل، ونذكر الحديث الوارد في ذلك، فلا نجد منهم تجاوبًا، وكنت أشعر بأن ذلك أثر من تشديد بعض المشايخ في مسألة الوجه! وكان عليهم ـ إذ أبوا إلا التشديد ـ أن يضيفوا إلى ذلك تحذير المحرمات من الانتقاب؛ فإنه فاش جدًا فيهن؛ كما شاهدت ذلك في كل حجاتي وعمري، ورأيت في المسعى شابًا يسعى وبجانبه امرأة متنقبة، فاقتربت منه وسألته: هذه محرمة؟ قال: نعم. فقلت: يا أخي! قال رسول الله ﷺ: «لا تنتقبُ المرأة المحرمة ولا...». فلم يدعني أكمل الحديث، وبادر بقوله: هذه مسألة خلافية! قلت: ليس بحثي في وجه المرأة، وإنما في انتقاب المحرمة. فلم يعبأ بي، وانطلق معها يسعى!).

زوجته كانت سافرة

هكذا يلخص العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني، الإشكالية المكرورة التي تمثل معضلة ومأزقا لعديد المجتمعات (الإسلامية) حول (وجه المرأة).. تلك الإشكالية التي كلما ظن مراقبون أن المجتمعات والعصر تجاوزها، كلما أطلت برأسها من جديد محدثة ضجيجا، يراه المراقبون جدلا فارغا لا طائل منه، إن لم يكن معطلا لما هو أهم. الألباني أورد ما حدث له في كتابه الإشكالي (الرد المفحم- على من خالف العلماء وتشدد وتعصب وألزم المرأة أن تستر وجهها وكفيها وأوجب ولم يقنع بقولهم : إنه سنة ومستحب ) ) منتقدا الآراء التي تقول إن (وجه المرأة عورة)، مفندا بالأدلة والبراهين من الكتاب والسنة المسألة، ورادا على من يدعي الإجماع على أن وجه المرأة عورة! مثبتا (أن أكثر العلماء على خلاف ذلك) لافتا إلى أن من يقول بذلك ينحو منحى التشدد، ويعرض أمثلة لهذا التشدد منها قوله: (حدثني صهر لي أنه قصد زيارة شيخ فاضل من أولئك المتشددين، فلم يحفل به ولا استقبله؛ لأن زوجته كانت سافرة عن وجهها؛ مع أن حجابها شرعي من كل النواحي! هذا؛ والشيخ معروف بتواضعه ودماثة خلقه! فأين هذا من قول الإمام أحمد: «لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه» ؟!).

النسوة والخوف

ويمضي الشيخ الألباني في سرد مواقف دالة على التشدد فيقول «.. وبعد العمرة ـ قيض لي أن أزور المنطقة الشرقية من السعودية، وألقيت فيها بعض المحاضرات، وأجبت عن أسئلة السائلين والسائلات أيضًا كتابة وهاتفيًا، فبلغني عن بعض الملتزمات منهن لما بلغهن حديث: «لا تنتقب المرأة المحرمة...»؛ قلن: نتنقب ولا نكشف عن وجوهنا؛ ونفدي! فقلت: سبحان الله! ما يفعل الجهل بأهله! فقد جعل الله لهن مخرجًا: أن يسترن وجوههن بالسدل، ولكن ذلك من آثار تشديد بعض المشايخ في تلك البلاد؛ مع إهمال التنبيه على الجوانب الأخرى المتعلقة بالمسألة والتيسير فيها».

ويضيف الألباني: (إني لأعتقد أن مثل هذا التشديد على المرأة لا يمكن أن يُخرج لنا جيلًا من النساء يستطعن أن يقمن بالواجبات الملقاة على عاتقهن في كل البلاد والأحوال مع أزواجهن وغيرهم؛ ممن تحوجهم الظروف أن يتعاملن معهم؛ كما كن في عهد النبي ﷺ؛ كالقيام على خدمة الضيوف، وإطعامهم، والخروج في الغزو؛ يسقين العطشى، ويداوين الجرحى، وينقلن القتلى، وربما باشرن القتال بأنفسهن عند الضرورة، فهل يمكن للنسوة اللاتي ربِّين على الخوف من الوقوع في المعصية ـ إذا صلت أو حجت مكشوفة الوجه والكفين - أن يباشرن مثل هذه الأعمال وهن متنقبات ومتقفزات؟ لا وربي؛ فإن ذلك مما لا يمكن إلا بالكشف عن وجوههن وأكفهن، وقد ينكشف منهُنَّ ما لا يجوز عادة؛ كما قال تعالى: إلا ما ظهر منها).

الشدة شر

كتاب الألباني - بحسب الناشر - من الكتب القيمة الكثيرة التي تركها - رحمه الله - مخطوطة ولم يقدر لها أن ترى النور في حياته ـ وهو كتاب عزيز عليه، نفيس، كان حريصًا على نشره، وينتظر فرصة للتفرغ للعناية به وإعداده للطباعة. وجاء نشره تغذية لمشروعه الكبير «تقريب السنة بين يدي الأمة».

وفي تصدّى الشيخ للردّ على كل من تعقب كتابه «جلباب المرأة المسلمة»؛ من أولئك الذين شنوا عليه حربًا ضرُوسًا دونما هوادة؛ لرأي ارتأه متبعًا فيه الكتاب، والسنة الصحيحة، وأقوال السلف من صحابة وتابعين وعلماء مذاهب وغيرهم. وقد جمع فيه تلك البحوث المتخصصة النادرة التي تناولها بالبحث والتحقيق، وضمت فوائد مهمة في جوانب عديدة، فبدأ باستعراض أدلة المخالفين وردودهم، وتتبع أقوالهم وشبهاتهم ـ التي يُوجبون بها على المرأة أن تستر وجهها وكفيها دون دليل صحيح صريح - واحدةً بعد الأخرى، ثم جعل في آخر الكتاب خلاصة لتلك البحوث؛ تضمنت جملة من الحقائق، والأوهام التي وقع المخالفون المتشددون فيها، وجعل خاتمة للكتاب ذكر فيها أن الشدة شر لا تأتي إلا بالشر، وحذر من الغلو في الدين؛ فإن الدين يسر، وأنه يجب على المشايخ والدعاة أن يقوموا بتربية الناس - رجالًا ونساء ـ على المنهج النبوي الكريم، ولن يستطيعوا ذلك إلا إذا تعرفوا على السنة والسيرة النبوية الصحيحة وما كان عليه سلفنا الصالح مما صح عنهم؛ مستعينين على ذلك بأقوال الأئمة المجتهدين والعلماء المحققين؛ وإلا حاد عن الحق وسبيل المؤمنين؛ فإن فقه العالم لا يستقيم إلا بهذا كله.

الاندفاعات الشخصية

يقول الألباني في توصيفه لمعارضيه: (رأيت ـ والله ـ العجب العجاب؛ من اجتماعهم على القول بالوجوب، وتقليد بعضهم لبعض في ذلك، وفي طريقة الاستدلال بما لا يصح من الأدلة رواية أو دراية، وتأويلهم للنصوص المخالفة لهم من الآثار السلفية، والأقوال المشهورة لبعض الأئمة المتبوعين، وتجاهلهم لها، كأنها لم تكن شيئًا مذكورًا! الأمر الذي جعلني أشعر أنهم جميعًا ـ مع الأسف ـ قد كتبوا ما كتبوا مستسلمين للعواطف البشرية، والاندفاعات الشخصية، والتقاليد البلدية، وليس استسلامًا للأدلة الشرعية؛ لأن ما ذكروه من الأدلة على مذهبهم - هم يعلمون جيدًا أنها لم تكن خافية علي؛ لأنهم رأوها في كتابي مع الجواب عنها، والاستدلال بما يعارضها، وهو أصح عندنا من استدلالاتهم التي تشبثوا بها، كما أنهم يعلمون أنني لا أنكر مشروعيَّتَهُ.

ليس من ذكر للوجه البتة

يفند الألباني أقوال مخالفيه ومعارضيه فيما يتعلق بوجه المرأة عبر عدة مباحث علمية ويؤكد بقوله «يزعم كثير من المخالفين المتشددين: أن (الجلباب) المأمور به في آية الأحزاب هو بمعنى (الحجاب) المذكور في الآية الأخرى: «فاسألوهن من وراء حجاب»، وهذا خلط عجيب؛ حملهم عليه علمهم بأن الآية الأولى لا دليل فيها على أن الوجه والكفين عورة؛ بخلاف الأخرى؛ فإنها في المرأة وهي في دارها، إذ إنها لا تكون عادة متجلببة ولا مختمرة فيها، فلا تبرز للسائل؛ خلافًا لما يفعل بعضهن اليوم ممن لا أخلاق لهن، وقد نبه على هذا الفرق شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في «الفتاوى» (448/15):


«فآية الجلابيب في الأردية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن.

قلت: فليس في أي من الآيتين ما يدل على وجوب ستر الوجه والكفين. أما الأولى؛ فلأن الجلباب هو الملاءة التي تلتحف بها المرأة فوق ثيابها وليس على وجهها - كما هو مذكور فيما يأتي من الكتاب، وعلى هذا كتب اللغة قاطبة؛ ليس في شيء منها ذكر للوجه البتة. وقد صح عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها: تدني الجلباب إلى وجهها، ولا تضرب به»، وما خالفه إما شاذ أو ضعيف».

من هو الألباني ؟

* الإمام والمحدث أبو عبدالرحمن محمد بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم الأشقودري الألباني الأرنؤوطيّ المعروف باسم محمد ناصر الدين الألباني

*(1914 - 1999)

*ولد في أشقودرة العاصمة القديمة لألبانيا

* درس والده الشريعة في إسطنبول وعاد إلى بلده وأصبح أحد كبار علماء المذهب الحنفي هناك، لكنه اختلف مع توجهات الملك أحمد زوغو الغربية بعد منعه النساء من ارتداء النقاب، فهاجر هو وأسرته إلى دمشق ومعه ابنه محمد.

* نشأ وتعلم في دمشق

*هيأت له هجرته للشام معرفة باللغة العربية والاطلاع على العلوم الشرعية من مصادرها الأصلية.

*عالم في شؤون الحديث

*يعد من علماء الحديث ذوي الشهرة في العصر الحديث

*له أكثر من 300 مؤلف بين تأليف وتخريج وتحقيق وتعليق.

*منح جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية 1999

*مصنفاته في علم الحديث:

سلسلة الأحاديث الصحيحة

سلسلة الأحاديث الضعيفة

صحيح الجامع الصغير وزيادته

ضعيف الجامع الصغير وزيادته

وصفة صلاة النبي