أحدّث نفسي: «اذْهَب لمعرض الكتاب؛ لتكتب كلامًا». هذه جملة ظللت أكررها، حتى حملت نفسي وذهبت للمعرض، لا لكي أشتري الكتب، بل لأجرب أن أكتب كلاما من وحي الضجيج؛ ضجيج الناس وضجيج الحروف نفسها التي تتنقل بين الأوراق.

وحين دخلت المعرض كانت الحروف في الهواء تتطاير...؛ وكنت أرى الكلام في الممرات، ثم حين أفتح كتابًا أجد ما رأيته في الهواء. فسألت سؤالًا متعجلا: لم هذا الكم المهول للكتب، والمعنى قليل؟

جرّبت أن أسأل مرشدي الممرات، فأعطوني خريطة لتغيير الأمكنة؛ إيمانًا منهم بأني سأجد معاني جديدة. عبرت في كل ممر على حِدة...، وفي كل ممر تتغير أماكن الحروف، فتتغير الكلمات لتُركِّب شيئا قد قيل سابقا، لكن بطريقة أخرى.


وفي الممرات روائح الأمكنة والديار التي جاءت منها، فحين فتحت كتابًا عشوائيًا من أقصى المغرب، وجدته يحاور موريس بلانشو عن قوله: «ليس المهم أن نقول قولا، وإنما أن نكرر القول، وفي هذا التكرار، نقوله مرة أخرى أول مرة»، فرأيت أنَّ هواجسي تتأكد بمؤامرة مَعرضيّة، فقلت: إذن يَحضر الآن ابن سَيّار في قوله: «فإن النار بالعودين تُذكَى/ وإن الحرب أولها كلام». أليست الكتابة حَربًا من نوعٍ ما؟

والسؤال: كيف نعيد وهج مقولة ابن سيار في ظل حرب الكتابة؟ فتذكرت مقولة لأمبرتو إكّو مفادها «إن الشيء نفسه يتغير على وجه التقريب». ربما هذا التقريب هو تكتيكات الحرب؛ ليتحول الذي شارف على الخسارة، إلى فائز لا يُشَقّ له قلم. وهذا الفوز ظهر لي -ببداهة أولى قد تكون متعجلة- أنه فوز مَعرضيّ، صنعته خلفية واقعية لا تنتمي للقلم إلا بكونه سلاحا كلاميا لفرض قوة اجتماعية. ثم رجعت لنفسي قائلًا: هل الكتابة قبل الواقع الكلامي، أم العكس؟ هل من سَبَّق الكتابة، مشى في درج سياقي تجديدي؟ ومن ثَمَّ يُنسَى في دركات المعرض؟ والسؤال إن سلّمنا بذلك: ما نوع هذا التسبيق وكيف يصير؟ حاولت أن أستلهم من المعرض إجابة تحدد ما الكتاب الذي لا تطير حروفه في أجواء الممرات الإعلامية؟. فشلت نسبيا، لكني وجدت لفظة (التأجيل)، مناسبة لذلك الكتاب الذي اختبأ في ركن قصي من المعرض، وكأن هذا الكتاب يؤجل معناه للمعرض القادم، فإذا جاء المعرض، تأجّل للذي بعده وهكذا. وهذا التأجيل لا يعني أنه لم يكتب شيئًا، بل هو يصنع فجوات لكل كتاب لتدخل من خلالها سياقات جديدة، تبرر بقاءها الزمني.

أخيرا: أوهمت نفسي بقول: «كأنَّ الكتب في المعرض صناديق طماطم، لا تحتمل أن تبقى هي نفسها سنة أخرى للعرض» وذلك لكي أخرج سريعًا من المعرض؛ لأكتب حروف هذه المقالة، فهي ابنة المعرض.