عندما اقتربت الحرب العالمية الأولى من ختامها، بعد أن طحن العالم طحنًا في رحاها، نظم شاعرنا الأستاذ عباس محمود العقاد قصيدته «ترجمة شيطان». وكان العقاد عندئذ قد أوشك على الثلاثين من عمره، فجاءت القصيدة - كما يقول الشاعر عنها في مقدمة ثرية قصيرة قدمها بها - لفحة من نار الحرب وغيمة من دخانها، وما هي إلا سنوات قلائل بعد قصيدة العقاد، حتى ظهرت في الإنجليزية أخت لها، تنتمي معها إلى أسرة من الشعر واحدة، وأعني بها قصيدة ت. س. إليوت الأرض اليباب، التي جاءت هي الأخرى لفحة من نار الحرب العالمية الأولى، وغيمة من دخانها.

والحق أن الأدب في أوروبا، بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، قد اجتاز مرحلة تستوقف النظر: وهي مرحلة حقيقة هنا بالذكر، لأنها ستلقي ضوءًا على قصيدة العقاد؛ فلقد أحس نوابغ الأدباء أن القيم الإنسانية قد أهدرت إهدارًا، وأن الغلبة قد أصبحت للطعام ومن هم دون الطعام، فكأنما زمام العالم قد بات في أيدي الدهماء، هم الذين يسوقون أصحاب المواهب بدل أن يساقوا، ويسوسون بدل أن يساموا؛ فماذا يصنع صاحب الموهبة الأدبية إلا أن يثور من أجل كرامة الأدب؟ ماذا يصنع سوى أن يقيم حاجزا بينه وبين هؤلاء الدهماء؛ إنه لم يخلق ليكون أداة لتسلية هؤلاء، إنما خلق ليكون لهم منارة وهداية، فإذا عز عليهم أن يهتدوا وأن يستنيروا فلا على الأديب من حرج إذا هو أبى واستكبر، وانطوى على نفسه انطواء لا تتسلل منه إلى أعين الدهماء إلا بناءات أدبية صعبة مسيرة لا يقربها إلا الدارسون؛ فلم يعد معيار الأثر الأدبي عندئذ هو كم من الناس قد أقبلوا على هذا الأثر، وكم طبعة طبع هذا الديوان، بل أصبح المعيار هو هل جاء الأثر الأدبي إضافة جديدة جادة للتاريخ الأدبي كله؟ فلقد أراد أدباء ما بعد الحرب الأولى مباشرة أن يسدلوا الستار على مأساة بشرية صنعتها غفلة الحمقى، ليفرغوا إلى فنهم الخالص؛ ولكي يفرقوا بين أنفسهم وبين أدباء ما قبل الحرب، كان لا بد لهم - فوق عنايتهم بجدة المضمون - أن تجيء الصورة هي الأخرى جديدة؛ على أن أهم طابع يطبعهم جميعًا هو الغوص في أعماق أنفسهم، كأنما الأديب قد أصبح راهبًا يلوذ بصومعته التي لا شأن لأحد بها سواه. جاء أدب ما بعد الحرب أدبًا خاصًا أريد به خاصة الخاصة، ولم يحسب القارئ العادي حسابًا، لا بل لم يكن يكفي أدباء ذلك العهد أن يغضوا أنظارهم عن القارئ العادي وما ينشده من تزجية لفراغه، بل تعمدوا أن يحولوا بين أدبهم وبين أمثال هذا القارئ، بأسوار يقيمونها من عمق في المادة وصعوبة في العرض وكثرة في الإشارات التي لا تفهم إلا بعد مراجعات أدبية كثيرة ومقارنات ودراسة متأنية متروية: أفكانت مجرد مصادفة هي التي جمعت في عام واحد (هو عام 1922 قصيدة ت. س. إليوت (الأرض اليباب) وقصة جيمس جويس (يولسيز) وهما ما هما عليه من عسر وعمق معًا؟ ثم هل كانت مصادفة عمياء أن يسبقهما مباشرة شعر بول فاليري في قصيدة (مقبرة عند شاطئ البحر) عام 1920، وأن يلحقهما فورًا قصة (الجبل المسحور) لتوماس مان (1924) وقصة فيرجينيا وولف (مسز دالواي) (1925) و(الحصن) (1926) لكافكا؟ أكانت مصادفة أن تزدحم كل هذه الآثار الأدبية في خمسة أعوام تعقب الحرب العالمية الأولى، وهي كلها آثار تلتقي في صعوبة المأخذ وعسر المثال، وفي بعد الغور واتساع الأفق، وفي الانطوائية التي تأنف أن تضرب في زحمة الناس؟ كلا، لم تكن هذه كلها مصادفات، عمياء، ولا كان من قبيل المصادقة أن تجيء قصيدة العقاد، ترجمة شيطان في أوائل هذه الفترة نفسها، ولست أشك لحظة واحدة في أنه لو كانت هذه القصيدة قد نظمت بالإنجليزية أو الفرنسية، واتخذت موضعها من تاريخ الأدب الأوروبي، لما ذكرت تلك الآثار بما بينها من طابع مشترك، إلا وتذكر في طليعتها قصيدة العقاد، لأنها بالطابع نفسه عسرًا وعمقًا واتساعًا وانطوائية تزدري أن تتوجه بالخطاب إلى عامة القراء؛ فهي وحيدة نوعها في الشعر العربي كله، وهي آية فريدة تستطيع أن تجمع حولها خيوط عصرها، كما هي الحال دائمًا بالنسبة إلى الآثار الأدبية الكبرى؛ فانظر كم قيل مثلا عن: الأرض الياب، وكم قيل عن، بولسيز: من حيث هما قطبان يدور حولهما أدب العصر؛ فهكذا كان ينبغي أن يكون الأمر بالنسبة إلى قصيدة العقاد «ترجمة شيطان» لو أن حركة النقد عندنا سارت عن بصيرة وعلى هدى؛ على أن أمرها لم يغب عن ناقد نافذ كالدكتور طه حسين، فقال في العقاد بصفة عامة وفي هذه القصيدة بصفة خاصة (في حفل تكريمي أقيم للعقاد عام 1934): (إنني أجد عند العقاد ما لا أجده عند غيره من الشعراء. وإن شئت فإني لا أجد عند العقاد ما أجده عند غيره من الشعراء، لأني حين أسمع شعر العقاد أو حين أخلو إلى شعر العقاد (وما أبرع الدكتور طه في هذا الاستدراك السريع، لأن شعر العقاد يحتاج إلى خلوة الدرس العميق، وليس هو شبيهًا بضربات الطبل التي قد تهز الآذان هزًا ثم لا يصل منها إلى النفس شيء فإنما أسمع نفسي أو أخلو إلى نفسي، إنما أرى صورة قلبي وصورة قلب الجيل الذي نعيش فيه...... إنني لا أقول لنفسي: قد قرأت هذا الكلام من قبل، أو أين قرأت هذا؟ أفي شعر البحتري أم عند أبي تمام، أم سبق أبو نواس إلى مثل هذا الكلام؟ كلا؛ إنما تقرؤون العقاد فتقرؤونه وحده، لأن العقاد ليس مقلدًا، ولا يستطيع أن يقلد، ولو حاول التقليد لفسدت شخصيته.

وها هي ذي حياة الشيطان كما ترجم له العقاد؛ نثرها ليطرد سياق الحديث، ولنتيح لأنفسنا فرصة التسلل إلى ما وراء الكلمات هنا وهناك.


الصائغ هو الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، ومكان الصباغة هو قاع الجحيم، وزمانها غسق الظلماء، والمصوغ هو شيطان صاغه الله ليرمي الأرض به، وأن تجريد كلمة شيطان من أداة التعريف، ليدل على أنه واحد من زمرة، فليس هو مقصود لذاته، ولكنه قصد لمهمة التي أريد له أن يؤديها، وهي أن ترمى الأرض به ليكون لأهل الأرض عبرة؛ فإذا طلب من سائر الإنس والجن أن يعبدوا الله شكرًا على أنه خلقهم من عدم، فلا يطلب مثل هذا الشكر من شيطان كهذا، وعلام الشكر وقد كتب له السوء قبل أن يظهر إلى الوجود؟ والله في ذلك كله عليم وقادر؛ فهو يعلم ما لسنا نعلمه من حكمة وراء صياغة كائن كهذا يراد به أن يكون رسول شر للأرض ومن عليها؛ فلم يكن على علم الله وقدرته بعزيز أن يأمر مخلوقه هذا المنكود الكنود قائلًا: كن محنة للأبرياء: نعم للأبرياء لأنهم هم الذين أبيضت صحائفهم.

وأما من اسودت صحائفهم بالسوء قبل نزول الشيطان، فلم يكونوا بحاجة إلى رسالته ولا إلى عبرته؛ قيل له: كن محنة للأبرياء، فكان الإحراج الذي لا يخرج منه: أيعصي أمر القضاء فيكسب رضى أهل الأرض لكنه يستحق اللعنة في الآخرة لعصيانه، أم يطيع الأمر فيكون هو الشيطان اللعين الرجيم كما أريد له أن يكون؟ إنه إما أن يعصي أو يطبع، ولا ثالث لهذين الفرضين، وفي كلتا الحالتين هو الفاجر الخاسر، ولعل هذا الإحراج كان هو النموذج الأزلي الذي جاء ساسة الدول بعدئذ فنسجوا على منواله، فما على السياسي إذا قبض على السلطان في بده وأراد أن يخرج من جنته أحد أعدائه، إلا أن يكلفه بما يوقعه في حرج كهذا.

شعر العقاد يحتاج إلى خلوة الدرس العميق، وليس هو شبيهًا بضربات الطبل التي قد تهز الآذان هزا ثم لا يصل منها إلى النفس شيء.

1963*

*كاتب وأكاديمي مصري «1905 - 1993»